في عام 1890، ادّعت سيّدة فلسطينية على زوجها بأنّه طردها من البيت مع ابنتهما بعمر سنة، وتركهما دون نفقة وكسوة، وفي المحكمة اعترف الزوج بذلك، وعلّل فعلته بأنّ زوجته "خارجة عن طاعته وتمنعه نفسها، وتخرج دون إذنه"، وأبدى استعداده لتوفير حاجاتها مقابل "انصياعها" له، لكنّها رفضت عرضه وطلبت الطلاق، وعرضت التنازل عن كافة حقوقها من أجل تحصيل ذلك، فوافق الزوج وحكم القاضي بذلك.
كانت هذه القضية، واحدة من قضايا كثيرة نظرت فيها المحاكم في فلسطين إبان الحكم العثماني خلال القرن التاسع عشر، تتعلق بالخلافات الزوجية، وكانت نهاية الكثير منها الطلاق، فيما كان قسم من هذه القضايا قد بدأ بعد الطلاق، في محاولة من المطلقة لتحصيل حقوقها من طليقها، ما يشير إلى أنّ النساء الفلسطينيات آنذاك كُنّ عارفات بحقوقهن، وقادرات على المطالبة بكثير منها، لكن قسمًا منهن كُنّ يعشن حياة زوجية شديدة السوء تدفعهن إلى التخلي عن حقوقهن مقابل تحصيل الطلاق، ما ينفي فرضية أن الطلاق كان فضيحة كبرى في مناطق كثيرة في الماضي، وخيارًا مستبعدًا تمامًا بالنسبة للزوجات وعوائلهن.
سجّلت المحاكم إبان القرن التاسع عشر قضايا طلاق كثيرة كانت نتيجة الخلاف على المسكن، أو النفقة، أو الخلاف مع الضرة
في منطقة وسط فلسطين، تم تسجيل أسباب عديدة أفضت إلى الطلاق قبل 160 عامًا، وقد كان الخلاف حول السكن أحد هذه الأسباب، والقصد هُنا هو سكن الزوجة مع أهل زوجها وفق نظام الأسرة الممتدة. ففي العام 1882؛ وصل زوج وزوجته إلى المحكمة للنظر في خلافهما الناتج عن سكنهما مع أهله، واحتجاج الزوج على خروج زوجته من بيتها دون إذنه، وبعد الاستماع للطرفين واستعراض الوقائع؛ تعهد الزوج بتوفير مسكن مستقل والنفقة على زوجته بقدر الحال، مقابل أن "تنصاع" له وتمتنع عن الخروج إلّا بإذنه.
اقرأ/ي أيضًا: العرس الفلسطيني: ماذا عن كسوة العروس؟
وفي العام 1892، رفضت زوجة العيش في بيت مع ضرتين لأنهما تؤذيانها، كما أنّ زوجها لا ينفق عليها، ورفضت الانصياع لـ "النكاح"، وحين أثبتت ذلك في المحكمة، حكم القاضي على زوجها بتوفير مسكن ونفقة يومية، وأن تنقاد له لـ"أحكام النكاح".
وشكّل الزواج من امرأة ثانية سببًا آخر في الخلافات التي قادت إلى الطلاق في فلسطين. فمثلًا، في العام 1888 تشاجرت زوجة مع زوجها، وبعد أربعة أيام طلّقها، بسبب زواجه من ثانية، وكانت نفقتها خلال فترة العدة تقتصر على إطعامها، فتقدمت للمحكمة وطالبت بأن تكون نفقتها نقدًا بمقدار قرشين يوميًا، نظير طعامها وشرابها، خوفًا من أن تقوم ضرتها بأذيتها بوضع شيء في الطعام، وقد حكم القاضي بذلك لها وسمح لها بالاستدانة على اسمه طوال فترة العدة.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن الطلاق كان يقع أيضًا دون خلافات سابقة بين الزوجين، ونتيجة حدث طارئ، ورغم أنّ هذا كان يعد استثنائيًا آنذاك، إلّا أنّه حدث بالفعل على أي حال. ومما يذكر في هذا السياق، أنه في العام 1869، حلف رجل يمينًا بالطلاق لإثبات براءته من اتهامه بسرقة أربع أغنام، وتبيّن لاحقًا أنّه كاذب، فتقدمت زوجته إلى المحكمة بطلب للتفريق بينهما، فحكم القاضي بوقوع الطلاق وفرّق بينهما.
اليمين الكاذب، والحلف بالطلاق، كانا سببًا في حالات طلاق عديدة في فلسطين، وقد أنهيها حياة أزواج كثر لم يكن بينهم أي خلاف
وسُجلت في العام 1874 حالة طلاق كانت نتيجة شجار بين رجل وآخر، أقسم خلاله أحدهما بأنه سيقتل خصمه في الليلة ذاتها، وقد مضت الليلة ولم يفعل، فتوجهت زوجته لبيت والدها وانعزلت عنه، ثم رفضت الوساطة للعودة إليه، فتوجّه الزوج إلى المحكمة لرفع دعوى يطالب فيها باستعادتها، لكن بعد سماع الأقوال واستعراض الشهود، حكم القاضي بثبوت طلاق الزوجة.
اقرأ/ي أيضًا: زواج فلسطينيات وإنجابهن.. الماء وسيطًا
وإضافة لما سبق ذكره، فإن الطلاق كان يقع أيضًا بسبب غياب الزوج في الخدمة العسكرية، أو عدم المعاشرة بمعروف، أو هجران الزوجة، وحضانة الأولاد، وعدم "انصياع" الزوجة للمعاشرة، ومماطلة الزوج في النفقة، وضرب الزوجة من قبل زوجها أو ضرتها، والتقتير عليها في المعيشة، وكون زوج "عنينًا"، أي أنّه لا يقدر على المعاشرة الزوجية.
ورغم توثيق الكثير من حالات الطلاق التي وصلت إلى المحاكم، ووقوع الطلاق بالفعل، إلا أنّ هذا الخيار ظل أخيرًا بعد فشل كافة الحلول العائلية التوفيقية من قبل مخاتير العائلات وأعيان القرى والمصلحين، وقد كان ذلك مؤشرًا واضحًا على تعقيد تلك القضايا من جهة، وعلى اقتناع الناس بضرورة وضع الحلول العملية من جهة أخرى.
والمتتبع لدعاوى الطلاق الكثيرة في المحاكم، سيجد أن مشاكل النفقة بارزة بوضوح، فأغلبها تم على شكل صفقات جاهزة سُجّلت على شكل دعاوى، تنصل منها الزوج من دفع حقوق طليقته مقابل طلاقها، وهو ما عكس واقعًا صعبًا آنذاك. فما الذي يدفع الزوجة للتخلي عن حقوقها المالية كبقية مهرها المعجل أو المؤجل، ونفقة عدتها، وحتى نفقة أولادها الذين هم في حضانتها، مقابل حصولها على الطلاق، وفي ظل مجتمع لم يعط مساحة حرية كبيرة للمرأة؟
ويشار هنا إلى التباين الواضح في تعامل الرجال خلال الفترة التي تحدثنا عنها مع حقوق زوجاتهم بعد الطلاق، فبينما امتنع كثيرون عن تنفيذ الطلاق إلا بعد تنازلهن عن حقوقهن، لم يتردد آخرون في دفع هذه الحقوق، ما يشير إلى تباين أيضًا في الثقافة والسلوك، وكيفية التعاطي مع النساء في قضايا الطلاق.
اقرأ/ي أيضًا:
المهور حين كانت قمحا أو ثورًا أورضًا..