على قارعة الطريق يجلس حسين زقوت (25 عامًا) وهو يحدق في جهازه الخاص برسم الكاريكاتير ليُكمل مسار 7 سنوات من العمل الإعلامي، وهو يحاول استراق التركيز وسط ضجيج مخيم النزوح في منطقة دير البلح جنوبًا، والذي نزح إليه منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بعد قصف الاحتلال لمنزله شمال القطاع وإصابته بجروحٍ طفيفة.
وحول ظروف العمل تحت النار يقول زقوت لـ"الترا فلسطين": "الحرب شكلت حالة من الشلل الكلي في منظومة العمل، وضاعفت من أعباء الحياة واحتياجات العائلة من مياه وطعام"، لافتًا إلى فقدانه مصدر دخله وعددًا من فرص العمل؛ نتيجةً لغياب المقومات وصعوبة الحصول على الإنترنت وانقطاع الكهرباء.
ووصف زقوت رحلة الوصول إلى نقاط الإنترنت "بالعملية اليومية الشاقة والمكلفة جدًا"، مضيفًا "يوميًا أبحث عن الإنترنت داخل المقاهي، وعلى أرصفة الشوارع، وإلى جانب إحدى البسطات التجارية، وأقطع مسافات شاسعة كي أتمكن من نشر رسوماتي الكاريكاتيرية عبر منصات التواصل الاجتماعي".
كيف يعمل أهالي غزة في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع؟
شتات وتشتت
وشدّد زقوت على صعوبة الالتزام بوقت العمل في ظل الحاجة إلى تكثيفه بصورة آنية وضاغطة، مضيفًا "التركيز بالمخيم يكون شبه معدوم، و"ممكن يقطع حبل أفكاري صف مياه أو طفل يبكي من حرارة الخيمة، وهذا فاقم من المعاناة إلى جانب غياب الخصوصية والإزعاج".
ويعتبر زقوت جهاز الرسم الذي يمتلكه هو "قشة نجاته الأخيرة" لإيصال رسالته، موضحًا أنه أهم محتوى في حقيبة الطوارئ، بالرغم من عدم حصوله على مقابل مادي.
وحول مخاوف زقوت خلال العمل، قال: "لا كلام يمكن أن يكون أوضح من انتهاء صوت الصاروخ في الخيمة، فانتهي معه شهيدًا، فمخاوف الموت تراودنا من الاتجاهات كلها، وفي اللحظات كلها".
فتاة في مهب الصعوبات
وفي حي الدرج شمال القطاع، التقى "الترا فلسطين"، سندس صبرة (25 عامًا)، أمام عتبة أحد المنازل خلال تسليمها المشاريع في مجالي الترجمة والتصميم الجرافيكي عبر منصات العمل الحر، والتي أكدت أن العدوان فرض عليها البحث عن الإنترنت بعيدًا عن مسكنها بحي الصبرة من أجل العمل وتلبية احتياجات العائلة بعد نزوح والدها قسرًا نحو الجنوب.
وأضافت "أصعب شيء بالنسبة لي كفتاة هو الجلوس في الشارع لساعات طويلة من أجل العمل، وتعرضي للتحرش اللفظي من بعض الأشخاص، عدا عن ارتفاع تكلفة الإنترنت إلى جانب الضغط النفسي"، لافتةً أنها "كثيرًا ما كانت تنسحب من مكان عملها تحت وطأة تهديد القصف القريب".
أزمة سيولة.. وفوائد مُستنزفة
وأشارت صبرة إلى معاناتها من التحويلات المالية؛ بسبب ارتفاع نسبة الفوائد، حيث وصلت إلى 25% من إجمالي المبلغ، كما لفتت إلى حظر بعض المواقع المالية لأبناء غزة أبرزها موقع "باي بال" الذي يقيد ويجمد حسابات الغزيين وحظرها في كثير من الأحيان بصورة، فاقمت من أزمة استقبال الأموال.
كما أوضحت سندس أن العدوان أوجد مسؤوليات جديدة على عاتقها كالتسوق والطهي على النار، مضيفةً "أعمال البيت ومستلزماته تأخذ ما نسبته 60 إلى 70% من يومي، وهذا سبب ترددي في تحصيل الوظائف عبر المنصات لتخوفي من عدم قدرتي على تسليم المهام في الوقت الملائم".
وأضافت "العمل عن بعد كان متنفس الشباب الغزي الوحيد، لكن العدوان أفقدنا الوظائف التي تحتاج إلى متابعة الفرص والعملاء بعدما كانت المصدر الأساسي لدخل بيوتنا، كما أفقدنا القدرة على تطوير أنفسنا باستخدام الأدوات التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، بفعل انقطاع الإنترنت والكهرباء اللازمة لشحن أجهزة العمل".
وحول دورها في نقل المعاناة تقول صبرة التي خاضت تجربة النزوح لأكثر من 7 مرات: "حاليًا أعمل على مشروع كتابة مدونات يومية كشاهدة على العدوان الإسرائيلي على غزة مع وكالة أجنبية في محاولة لإيصال صوتنا للعالم"، معربةً عن حزنها لفقدان غزة الحياة بعدما وهبتها إياها.
فرص ضائعة
تتشابه رحلة محمد علي الزيتونية (22 عامًا)، مع سندس في البحث عن نقاط الإنترنت ومصادر الطاقة البديلة بين الطرقات من أجل إتمام مهامه في العمل الحر بمجال التصميم الجرافيكي في ظل انقطاع الكهرباء، مضيفًا "العمل في الحرب معاناة بمعنى المعاناة، ولما أسمع عن نبأ عزيز علي تُشل قدرتي عن العمل".
وشدد الزيتونية على اجتماع "سوء الظروف تحت مظلة الموت وتفاقمها نتيجة أزمة السيولة وارتفاع العمولة"، مضيفًا "هو أنا كم إجمالي دخلي؟ عشان يتوزع ما بين نسبة للموقع وعمولة للصرّاف، ولولا الحاجة لكان الاستسلام هو الخيار".
كما أشار الزيتونية إلى أن العدوان سرق حلمه في إكمال دراسته وتحسين واقع عمله حيث كان على موعد مع فرصة جديدة في إحدى المطابع في هولندا في أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كما دمّر الاحتلال مقر شركتي للإنتاج الإعلامي بحي الرمال، انضم إليهما قبيل العدوان للعمل وفق نظام القطعة.
وأضاف "كوني وحيد العائلة، الحرب أجبرتني على صرف كل ما جمعته من مال منذ 4 أعوام من العمل من أجل السفر على تلبية احتياجات البيت الأساسية، والتي وصلت أسعارها إلى 100 ضعف، كما توزعت حياتي بين جمع الحطب ونقل المياه إلى جانب محاولات العمل"، متمنيًا أن تُفتح المعابر ليستكمل طموحه في الخارج.
عودة من الصفر
وأوضح الزيتونية أن العدوان تسبب في خسارته لهاتفه الذي يحتوي على أهم معرض للأعمال كان يستخدمه للتقدم إلى فرص العمل، كما فقد رقم حسابه على موقع "باي بال"، بينما جُمِّدَت حساباته عبر منصات العمل الحر بفعل قلة العملاء وانخفاض التقييمات منذ عام، الأمر الذي اضطره إلى بناء معرض أعمال وحساب "باي بال" من جديد.
وأشار الزيتونية إلى اضطراره للطلب من المعارف والجهات الإغاثية في منطقة سكنه بحي الدرج العمل في مجاله، مضيفًا "حاليًا أعتمد على مكتبة المصمم للاستعاضة بها عن عمليات البحث والتحميل اللازمة لجمع الأيقونات والصور وتجاوز ضعف الإنترنت"، مؤكدًا على حرصه على نقل المعاناة عبر مونتاج فيديوهات العمل الإنساني للمؤسسات بأسعار رمزية.
أما عن هلا أبو قص التي تعمل في مجالي التصوير ومونتاج الفيديو، فقد شددت على صعوبة ظروف العمل في ظل غياب المواصلات وتنقلها في ظل سوء الأوضاع التي تسببت في تعطيل الكثير من الأعمال، لافتةً أنها تلجأ في رفع موادها الإعلامية إلى جهات العمل عبر إنترنت الشوارع بعد إثبات عدم فعالية الشرائح الإلكترونية، وهي شرائح تتضمن خدمة شحن الإنترنت لفترات طويلة مقابل مبلغ مالي.
مخاوف كبيرة.. والمقابل "طرد"
كما أشارت أبو قص التي نزحت من حي الرمال الجنوبي إلى شرق غزة، إلى فقدانها لبعض الفرص بفعل الإرسال المتأخر للأعمال بعد مشقة البحث والتغطية نتيجة سوء الإنترنت، لافتةً أن مساهمتها في العائلة باتت على هيئة "كابونات وطرود" تقدمها مؤسسات العمل التي تقصدها.
وأوضحت أبو قص أن عملها يتركز في المدارس ومراكز النزوح التي كثف الاحتلال من استهدافها مؤخرًا، الأمر الذي يضطرها إلى مغادرة مكان العمل باكرًا هربًا من هاجس الحصار أو الموت بعيدًا عن العائلة.
أزمة العمل تتفاقم في غزة، في ظل مصاعب متزايدة، وأزمة مالية، وقصف متواصل
وعن واقع الشباب بغزة، قالت أبو قص: "الشي صعب وبأي وقت ممكن نستسلم غير فقدنا للفرص، وكثير من الشباب تخلو عن طموحهم في ظل الحالة اللي بنعيشها"، لافتةً أنها تحاول توفير المال بقصد جهات العمل واستخدام برامج المشاركة كبديل عن الإنترنت كلما استطاعت.
وبينما لفتت أبو قص إلى فقدانها للكثير من المواد بفقدانها لأحد أجهزة العمل في ظل غياب البدائل والصيانة، أشارت إلى أن جهاز اللاب توب الذي استخرجته من تحت الأنقاض هو أهم محتوى في حقيبة الطوارئ، لتختم حديثها بالقول: "عمري ما فكرت أتراجع عن التصوير؛ لأنها الدليل الوحيد لتوثيق حرب الإبادة المستمرة على غزة".