في غرفةٍ شرقية في "قسم الباطنة" في مستشفى الأقصى وسطَ قطاع غزة كانَ محمد عماد (15 عامًا) يغفو كميتٍ بعدَ أن حصلَ على حقنة منومٍ وجدها الأطباء ضروريةً إثر انتفاض جسده وتشجنه لأكثر من خمس دقائق متواصلة بصورة عنيفة جدًا، انزاحَ معها قناع الأوكسجين عن فمه وأنفه، وانقلبت عيناه حتى بانَ بياضها.
الطفل محمد فقدَ وعيه بعدَ استنشاقه للغاز الإسرائيلي المثير للأعصاب في مواجهات الجمعة الـ20 من مسيرات العودة بتاريخ 10 آب/أغسطس، ولا يزال جسده ينتفض كل خمس دقائق أو أقل، دون أن يملك الأطباء في غزة القدرة على علاج حالته، فيقرروا حقنه بالمهدئات.
محمد عماد ينتفض جسده كل خمس دقائق أو أقل بسبب استنشاقه غازًا أطلقه جيش الاحتلال في مسيرات العودة، ولا يعرف الأطباء نوعه ولا علاجه
هاني عماد، والد محمد الذي استعانَ بمرافقي المرضى في القسم الباطنة، ثبَّتَ ابنه وصارَ يبكي، بكاءً عزيزًا ما اكتُشفَ لولا دمعتين سقطتا على خديه لكن سرعان ما أخذ يمسحهما بكفه.
اقرأ/ي أيضًا: مسيرات العودة: مصابون بلا علاج
نسي عماد من شدة الارتباك ترتيبَ ابنه بينَ إخوته وعمره وفي أي سنة دراسة أثناء حوار "الترا فلسطين" معه، واعتذرَ مراتٍ عن ارتباكه وتوتره، فمحمد "الذي يبدو كجثةٍ إن استسلمَ للنوم، وكمن يفقد الروح إن انتفضَ جسده لم يكن بهذه الصورة قطعًا قبلَ إصابته".
قال والده: "وصلت إلى المستشفى بعدَ اتصال الأقارب بي وإعلامي بإصابة محمد، قالوا إنه استنشقَ من الغاز الذي أطلقه جنود الاحتلال شرقَ مخيم البريج وسطَ القطاع، فحمدت الله أنه لم يصب برصاصةٍ كسرت قدمه كأول مرةٍ شاركَ فيها بمسيرة العودة، ولم تُخلف في رأسهِ قنبلة غازٍ مسيل للدموع سبعَ غُرزٍ كإصابته الثانية، كُنت أظنها غازًا من الذي اعتاد الاحتلال إطلاقه على المشاركين بالمسيرة حتى وصلت ابني وصدمتني حركات جسده العنيفة".
على مدار خمسة أيامٍ متواصلة يستيقظ محمد من غيبوبته كل خمس دقائق ليضربَ جسده بالسرير غيرَ واعٍ ما يفعل، فيصيبَ أطرافه ورأسه بجروحٍ مختلفة يضمدها الأطباء عاجزينَ عن فعل أكثرَ من ذلك.
مستشفى أبو يوسف النجار في رفح هو من استقبل الحالة الأولى المصابة بتشنجات نتيجة استنشاق الغاز المُثير للأعصاب. يقول رئيس "قسم الباطنة" في المستشفى إيهاب السبع، إن الأعراض التي يتسبب بها الغاز في جميع الحالات التي وصلت المستشفى على مدار أربعة أشهر من عمر مسيرة العودة كانت تشنجات وحركات لا إرادية لأجساد المصابين، وضيق نفس، وسُعال حاد، ناهيك عن الغيبوبة وأحيانًا القيئ المستمر، وتمتد الأعراض من يوم إلى أكثر من 20 يومًا.
وأكد الطبيب السبع لـ الترا فلسطين أن مستشفيات القطاع تتعامل مع أعراض استنشاق الغاز وليس المرض نفسه، بسبب عدم معرفة نوع الغاز بالتحديد. فيما قال الناطق باسم وازارة الصحة الدكتور أشرف القدرة في تسجيل مصور مطلع نيسان/إبريل إن الغاز مجهول، ويؤدي لتسارعٍ في دقات القلب وارتفاع في الضغط وتقيؤ وسعال شديد، مضيفًا، "طالبنا الاحتلال بالكشف عن طبيعة الغاز".
مستشفيات غزة تتعامل مع أعراض استنشاق قنابل الغاز الإسرائيلية وليس مع المشكلة بحد ذاتها، والاحتلال يرفض التصريح بنوع الغاز
تزامن ذلك التسجيل مع إصابة الشاب أحمد زعرب (20 عامًا) من رفح بتلكَ الأعراض نتيجة استنشاق ذلك الغاز المجهول، واليوم بعد أربعة أشهر من ذلك الوقت، لم يكشف الاحتلال عن طبيعة الغاز بعد، فلم تعرفه وزارة الصحة أو مؤسسة الحق والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان اللذان تواصل معهما الترا فلسطين لمعرفة طبيعة الغاز واسمه.
اقرأ/ي أيضًا: جريحات في مسيرات العودة: لنكون أول العابرين
وقال الباحث في "المركز الفلسطيني" فضل المزيني، إن الغاز لا يزال مجهولاً ولا تتوفر معلومات حول اسمه، والغاز الوحيد المعروف هو ذلك الذي يُطلق عليه "المُسيل للدموع"، وهو ما اتفقت عليه أيضًا الباحثة القانونية في مركز الحق مها عبد الله، إذ قالت إن حالات الإغماء والتشنج للمصابين في مسيرة العودة بالتأكيد سببها الغاز الذي لا يزال مجهولاً.
المُسعف مُعتز أيوب، كانَ شاهدًا على إصابة العشرات من المشاركين في مواجهات الجمعة الـ20 بحالات تشنج ما بين المتوسطة والخطيرة، بعدَ استنشاقهم لغازٍ "رائحته أقرب لرائحة الجيفة، ولونه مائل للأزرق" وفق قوله.
وقال أيوب: "استنشقت مُسعفة ميدانية الغاز الأزرق الجمعة الماضية في موقع أبو صفية شرقَ مخيم البريج، وأصيبت فورًا باختناق وتشنجات غريبة تسببت بتمزق أزرار جلبابها، وكسرت بيدها خزانة الأدوية الخشبية في سيارة الإسعاف، الأمر الذي استدعى تثبيتها لوضع قناع الأوكسجين على وجهها".
كانت حالة المسعفة متوسطة واستمرَ تشنجها نصفَ ساعةٍ تقريبًا، فيما تراوحت حالات التشنج الأخرى بينَ ربع ساعة وساعة، عدا عن حالة محمد عماد الذي استمرَ تشجنه خمسة أيامٍ متواصلة، وفق المسعف أيوب.
أخصائي الصيدلة القانونية، والمُختص بتصنيف الغازات السامة موسى عمارة، رجَّحَ أن تكون الغازات التي يُطلقها الاحتلال عبارة عن خليط من غاز السيرين والريسين والماسترد، وهي غازات شديدة السُمية وتتسبب بالاختناق وتجلط الدم الداخل للرئتين والخارج منها، واحتقان في العينين، وتعمل على إخماد مراكز التنفس في الدماغ، مما يتسبب بحالات التشنج والموت اختناقًا في أسوأ الحالات.
قنابل الغاز المستخدمة في مسيرات العودة - على الأرجح - خليط من غازات شديدة السمية تُسبب تجلط الدم وتُخمد مراكز التنفس في الدماغ
وبيّن عمارة لـ الترا فلسطين أن ألوان الغاز مُتعددة ورائحته كريهة جدًا، وقال: "أثناء متابعتي الميدانية لعينات الغاز شرقَ غزة بغرض الدارسة، تبينَ أن ألوان الغاز الذي يُطلقه جنود الاحتلال هي الأبيض الذي يُشبه الغيم، والأخضر، والأبيض المائل للزرقة، ورائحته كريهة جدًا، بعضها يُشبه الكبريت وبعضها يُشبه القاذورات".
أحمد زعرب أول مُصاب بالغاز المجهول شرقَ رفح لا يذكر ما كانَ يحدث معه قبلَ تعافيه إثرَ تحويله للعلاج في مصر.
وأفاد الصحافي عادل زعرب، بأن أحمد - ابن شقيقه - أصيبَ بقنبلة غازٍ إصابةً مباشرة أدت لإغمائه واستنشاقه الغاز بكمية كبيرة دخلَ بعدها في غيبوبة وتشنجات يومية لم يتمكن أطباء غزة من تشخصيها وعلاجها، لذا لزمَّ تحويله للعلاج في مصر، وبدأ بالتعافى من الإصابة بعدَ 25 يومًا.
وتابع، "كانَ أحمد يُصاب بالتشنج كل خمس دقائق تقريبًا، وبعدَ تلقي العلاج صارَ يدخل في حالة انتفاض الجسم خمس مرات يوميًا حتى خفت الحالة تدريجيًا واستعادَ وعيه، إلا إننا نخشى عودتها له، فالأطباء المصريين قالوا إن الغاز أثرَ على الجهاز العصبي ويجب أن لا يُترك أحمد وحده ساعات طويلة خشية رجوع الحالة وتعرضه للخطر".
ويمتنع جيش الاحتلال عن التصريح بطبيعة الغاز الذي يطلقه على المتظاهرينَ شرقَ غزة، وتزداد حالات الإصابة بهِ جمعةً تلوَ أخرى، في ظل عجزٍ عام في مستشفيات القطاع عن علاجه أو معرفه ماهيته، ليبقى المصابونَ رهينة للمسكنات والمُهدئات مُنتظرينَ التحويلة للعلاج خارجَ غزة.
اقرأ/ي أيضًا:
أسياخ البلاتين.. كتلة لهب في أقدام جرحى غزة
فيديو | "طيري يا طيارة".. عهد الطفولة يعود بورق ونار
مسعفة بقدم مكسورة وضغط مزمن و"هيموفيليا"