"وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف أو خبطته دابة"/ صحيح جامع بيان العلم وفضله، أبو عمر يوسف بن عبد البر.
قال لي الطبيب: "أنت مصاب بمرحلة متقدّمة من البواسير. تحتاج فورًا إلى عملية جراحية". في الحقيقة، كان الألم كفيلًا ليقول لي ذلك، ولأعلم مدى خطورة الوضع القائم في تلك المنطقة الحسّاسة، لذلك لم أكن بحاجة هذا التشخيص، وإنّما لإيقافه بأي طريقة كانت.
تطوّرت صناعة الكتب المخصصة للقراءة في الحمّام؛ شاب أمريكيّ ألّف كتابًا أسماه "رفيق الحمّام"، وشركة ألمانية طبعت روايات على ورق التواليت، يتم التخلّص منها فور قراءتها
لم تكن "البواسير" من ضمن الحجج التي ذكرها القساوسة ورجال الدين، في معرض ردّهم على "دبليو. سي. بريفي"، الشاب الأمريكي الذي التفت لأهمية الوقت المهدور في الحمّام، فألف في عام 1903 كتابًا بعنوان (رفيق الحمام/ Bathroom companion)، ضمّنه قصصًا قصيرة ونكاتًا ومقالات وأقوالًا مأثورة، بغرض قراءة الكتاب في الحمّام حصرًا.
وبالرغم من أنّ بعض الأطباء ورجال الدين في ذلك العصر انبروا لمهاجمة بريفي، مدّعين أن القراءة داخل الحمّام تؤدي للإصابة بالعمى، أو نمو الشعر في أماكن غير مرغوبة، إلّا أنّه نشر أكثر من 30 كتابًا حتى عام 1916، لتكون بذلك أول سلسلة في التاريخ، تُكتب لهذا الغرض.
بعد ذلك تطوّرت صناعة الكتب المخصصة للقراءة في الحمّام، فيذكر صاحب كتاب "جنوني.. مذهبي في القراءة" أنّ إحدى الشركات الألمانية قامت بطبع روايات مختلفة، على ورق التواليت، ليتم التخلّص منها فور قراءتها، وعرضت الفكرة للمرة الأولى في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب.
سألت الطبيب عن السبب:
- هل تصاب بالإمساك بشكل متكرر؟
- لا
- كم وزنك؟
- 80 كيلوغرامًا.
- إذًا ليست السمنة، هل تقف لفترات طويلة؟
- لا
- هل تُدخّن؟ أو تسعل بشكل متواصل؟
- لا
- ممممم إذًا أنت تجلس لفترات طويلة في الحمّام.
بدأ الأمر عندما سمعت قصص أولئك العلماء، ممّن ينتمون إلى السلف الصالح. ويصرفون وقتهم كلّه من أجل العلم، مستغلين حتّى الدقائق والثواني في سبيل زيادة معرفتهم. صحيح أنني لا زلت أجهل هؤلاء الأشخاص. فأنا لم أقرأ منجزهم، ولم أعرف مدى أهميته. وبالرغم من ذلك، أعجبت بهم، وأردت تقليدهم.
محاكاة تلك القصص الأقرب إلى الأساطير كان مستحيلًا. إلا أن أبطالها، وعلى المدى البعيد، صنعوا في صدري الصغير قلقًا مستمرًا، تطور فيما بعد ليصبح فوبيا من "تضييع الوقت".
كان أحدهم يسفّ الطحين سفًا، ثم يشرب عليه الماء، ليجمد في بطنه، مستغلًا بذلك وقت الطعام المُفترض، لصالح القراءة والتحصّل على العلم. أمّا الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فهي قصة عبد الوهاب المسيري، المفكر المصري الشهير. قرأ ذات مرّة –لا أذكر أين قرأت ذلك- لمدة 48 ساعة متواصلة.
يذكر عبد العزيز تمراز في كتابه عن القراءة، أنّ هناك رجل أمريكي من سان دييجو يدعى العم "جون جافانا" أصيب مرة بحالة إمساك شديدة، وفكّر أثناء جلوسه في المرحاض، بضرورة قراءة شيء ما. فأسس "معهد قراءة الحمامات" في منتصف الثمانينات، وهو معهد متخصص في نشر الكتب لهواة القراءة في الحمام.
نجحت فكرة العم جون، وباع من كتبه أكثر من 3 مليون نسخة، وانضم إلى عضوية المعهد، أكثر من 18 ألف مهتم من مختلف دول العالم. يقول العم جون: "سألت نفسي بما أنه يوجد كتب في المطبخ وبجانب السرير وعلى المائدة، لماذا لا توجد في الحمام؟".
[[{"fid":"72690","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"الشاعر والروائي الأمريكي تشارلز بكوفسكي، وصورة نادرة أثناء قراءته في الحمّام","field_file_image_title_text[und][0][value]":"الشاعر والروائي الأمريكي تشارلز بكوفسكي، وصورة نادرة أثناء قراءته في الحمّام"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"الشاعر والروائي الأمريكي تشارلز بكوفسكي، وصورة نادرة أثناء قراءته في الحمّام","field_file_image_title_text[und][0][value]":"الشاعر والروائي الأمريكي تشارلز بكوفسكي، وصورة نادرة أثناء قراءته في الحمّام"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"الشاعر والروائي الأمريكي تشارلز بكوفسكي، وصورة نادرة أثناء قراءته في الحمّام","title":"الشاعر والروائي الأمريكي تشارلز بكوفسكي، وصورة نادرة أثناء قراءته في الحمّام","height":888,"width":599,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
لاحقًا، أصبحت عندما أخرج في مشوار قصير، اصطحب كتابين على الأقل، أما عندما يناديني أبي من الغرفة المجاورة فآخذ كتابًا معي، عندما أذهب إلى الجامعة أحمل في حقيبتي ثلاثة كتب. في المواصلات العامة، أو عند زيارة الطبيب فالكتاب لا يفارقني. وإذا سُئلت، دائما أقول: قد يحصل شيء ما، وأضطر للمكوث في مكان ما، وسأتسلى بهذه الكتب، حتى تنفكّ الأزمة، وتعود المياه إلى مجاريها.
كانت مشكلتي البسيطة التي أعاني منها، وهي عدم قدرتي على التركيز إذا شاركني أحدهم الأكسجين. هي ما منعتني من قراءة أي سطر من كل هذه الكتب التي كنت أحملها. لأنها -بالإضافة لوجود أشخاص دائمًا في كل مكان- لم تحدث أزمة ما، تضطرني للجلوس في مكان ما، لمدة طويلة، تسمح بالقراءة.
كان الحمّام استثناء؛ مكان تحدث فيه أزمة بالفعل، تضطر للجلوس فيه لمدة طويلة نسبيًا، تنتظر انفراجها، والأهم من ذلك؛ مكان هادئ. وبسبب فوبيا تضييع الوقت التي أصابتني لأن المسيري قرأ ذات مرة 48 ساعة متواصلة (حاولت كثيرًا أن أقوم بذلك، ولم أصل إلى ربع تلك المدة) كنت أقف أمام مكتبتي أكثر من 5 دقائق لأختار كتابًا لقراءته في الحمّام، بالرغم من أن جلوسي في الحمّام قد لا يستغرق هذه المدة.
مع الوقت، وتكرار التجربة، بدأت أطوّر من قراءاتي الحماميّة، فأصبحت أختار كتبًا بعينها لقراءة الحمام فقط، أمسكها عندما أذهب، وأغلقها عندما أخرج، وبذلك أكون قد قرأت كتابًا كاملًا في الحمام فقط. بمرور الوقت بدأت جلساتي تطول، فصرت أتمكن من قراءة 20 صفحة في الزيارة الواحدة.
بهذه الطريقة، قرأت كثيرًا من الكتب في الحمّام، أعمال مريد البرغوثي الكاملة، وديواني "الأشجار على مهلها" و"كتاب الغيب" لطاهر رياض، و"إيروتيكا" ليانيس ريتسويس، و"ليلًا على سفر" لتوماس ترانسترومر، و"هروبي إلى الحرية" لبيغوفيتش، و"كلمات رديئة" لميثم راضي، والعشرات غيرها. إلّا أن "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي يبقى أهم ما قرأته في الحمام، ولعل أجزاءه العشرة، هي السبب الرئيسي لظهور البواسير، لطول المدة التي استغرقتها في قراءتها، وتكرارها.
يقول التوحيدي في مقدمة الجزء الثالث من كتابه: "ومن عرف المتبوع من التابع، حطّ التابع عن درجة المتبوع، والعلم هو المتبوع، والعمل هو التابع". ويجيب أولئك الذين يقفون أمام الحمّام ويستعجلون من داخله: "ما ورّثت الأسلافُ الأخلافَ كنزًا أفضلَ من الكتب، ولا حلّتِ الآباء الأبناءَ حليًا أزين من الأدب" (8/157).
فلأعترف: بإمكان القراءة أن توجع أشياء أخرى غير العقل.
اقرأ/ي أيضًا:
كتب، أغلفة وترجمات مسروقة للبيع!