كذب محمد، هكذا تقول مقاطع الفيديو المسربة له، والتي تشير إلى أن المخرج السوري المعارض كان يسعى ربما للشهرة ولجمع التبرعات لصالح فيلمه الجديد (الذي يتحدث عن التعذيب في سجون النظام السوري) عندما فبرك حادثة اغتياله في أوائل تشرين أول/اكتوبر الماضي في العاصمة التركية اسطنبول. قصة محمد بايزيد لن تكون موضوعاً نكتب عنه بل مثالاً جيداً للإشارة إلى الضرر الذي قد يُلحقه أبناء القضايا بقضاياهم.
بكل بساطة يتم الربط بين الفكرة والأشخاص المؤمنين بها، ليس ربطاً بسيطاً بريئاً بل ربطاً مؤذياً أحياناً، قد يفعل الناس ذلك بشكله الأولي ليحولوا المجرد (الفكرة) إلى ملموس (شخص) ليسهل عليهم فهمها أو اتباعها أو حتى محاربتها. وهنا نجد أن الكثيرين قد يصفون ديناً أو فكراً سياسياً أو بلاداً بأوصاف أشخاص يُعرفون بانتمائهم لهذا أو ذاك. وهنا كثيراً ما نجد المدافعين عن أفكار معينة يطالبون بالفصل بين الفكرة وبين من ينتسبون لها، ويطالبون بعدم تحميلها -أي الفكرة- أخطاء هؤلاء الذين قد يتبعونها عن قناعة أو عن مصلحة، عن معرفة أو عن جهل.
يتم الربط بين الفكرة والأشخاص المؤمنين بها، ليس ربطاً بسيطاً بريئاً بل ربطاً مؤذياً أحياناً
وبينما يُجن جنون هذا الفريق المنادي بالفصل خوفاً من تلوث الفكرة أو ضياع القضية يأتي المشككون ليتساءلوا عن براءة فكرة، سواء كانت دينية أو سياسية من أفعال منتسيبيها، خاصةً عندما تصبح هذه الأفعال ظاهرة منتشرة وفعلاً مكرراً عند الكثيرين من منهم.
اقرأ/ي أيضاً: القدس من خلال أربع مذكرات شخصية
لم أكن لأفهم على أي أسس قد يبنى بعض الكتاب والصحفيين العرب قناعاتهم بأن الفلسطينيين باعوا أراضيهم للاحتلال. كنت أحسبها كلاماً جاهلاً، وأن جُلّ ما يستندون إليه في روايتهم هذه هو اعتقادهم أن خروج الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم عام 1948 لم يكن نكبةً ولا تشريداً، بل كان نتيجة عملية بيع وشراء للأرض تمت بالتوافق والرضا، ولكن اعتقادي لم يكن صحيحاً، فالكثير من المقالات التي كتبها هؤلاء بنوا فيها آراءهم وقدموا حججهم على أحداث لا يمكن نكران حدوثها، مثل الاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال، أو التصريحات الودودة لمسؤولين يتحدثون عن الاحتلال وكأنه ليس باحتلال. أضف إلى ذلك سهولة أن يربط هؤلاء الكتّاب المساعدات الدولية المقدمة للسلطة الفلسطينية بسلوكها السياسي الرديء والمتهاون مع الاحتلال. قد تبدو هذه عملية بيع وشراء يسهل إثباتها.
سنرفض أن تكون السلطة الفلسطينية بمنهجها السياسي هي الممثلة لأصل القضية الفلسطينية وروحها، بالتأكيد يمكننا أن نرفض، وبإمكاننا أن نحتج كما نشاء، وأن نقول بأن السلطة لا تمثل قضيتنا، وأننا كفلسطينيين لسنا موافقين أو ملزمين بالتزامات أجهزة السلطة تجاه الاحتلال، سنقول أيضاً إن القضية الفلسطينية شيء، وهؤلاء الرجال شيء آخر، بإمكاننا أن نردد هذا كله كما نريد، ولكن وفي نهاية الأمر ستظل سلطة تمثيلنا بيد السلطة، وستظل القضية تدفع ثمن تمثيلها السيء لحين تغيير الممثلين واستبدالهم.
وبعيداً عن رجال السياسة الذين غالباً لا يمثلون خيارات الشعوب الثائرة ولا قضاياهم مهما منحوا من مناصب للتحدث باسمها، فإن المهم هنا أن تظل الشعوب دائماً خير ممثل لقضاياها. ففي حالة بايزيد، الذي يعرف عن نفسه بكونه معارضاً للنظام السوري ومؤيداً للثورة ضده، فإن ما قام به إذا صحت رواية فبركته لمحاولة اغتياله، لم يمس شخصه وسمعته فقط، بل يمس الفكرة التي أعلن أنه مؤمن بها، ويمنح النظام ومؤيديه فرصاً مجانية لتجميل أنفسهم من خلال أخطاء معارضيهم ونزواتهم.
إن أصعب ما تواجهه الشعوب المحتلة هو دولة احتلال ذكية تدرك تسخير ثغرات عدوها ونقاط ضعفها لصالحها، وقد أدرك الاحتلال الاسرائيلي عِظم نتائج هذا المنهج ورخص تكاليفه، ولطالما استخدمه ضدنا من خلال أساليب كثيرة، بدءاً بفبركة القصص ببترها، أو من خلال التركيز على فضائح متسلقي القضية وفسادهم، أو من خلال عرض الصور والأخبار التي قد يرى العالم من خلالها أن للإسرائيليين عدو تائه بينه الكثير من الانقسامات والعداوات الداخلية، عدو غير منظم وغير مؤهل لحكم البلاد، لأنه ببساطة لا يجيد أحياناً الحفاظ على شوارع مدنه نظيفة!
اقرأ/ي أيضاً:
عندما أفسد الحكام العرب الود بين شعوبهم