حتى وقت قريب، كان المارون في حي الرمال على وجه الخصوص (منتصف شارع عمر المختار) يضطرون إلى صم آذانهم نتيجة الضوضاء المنبعثة من مولدات الطاقة، التي كانت تمتد على جانبي الشارع الأكثر شهرة على مستوى قطاع غزة، كونه يضم مئات المحلات التجارية، غير أن هذه الضوضاء تلاشت بعدما أقدم مُلاك عدد من تلك المحلات على إغلاق أبوابها بسبب الخسائر الاقتصادية التي تكبدوها، وعجزهم عن دفع الإيجارات السنوية المستحقة.
وعلى طول هذا الطريق الممتد من حي الشجاعية شرقًا حتى ساحل البحر غربًا، فإن أكثر ما يثير الانتباه هو الملصقات التي طُبعت على أبواب المحال "المحل للإيجار".
محلات تجارية في مناطق عامرة بقطاع غزة لا تجد مستأجرين، بعد أن دفعت الأزمة المالية التجار الذين استأجروها لسنوات طويلة إلى تركها
جهاد أحمد، صاحب متجر لبيع ملابس الأطفال يقع وسط مدينة غزة، قال إنه سعى جاهدًا لإبقاء متجره واقفاً على قدميه، من خلال تحفيز الزبائن على الشراء عبر تقديم عروضات ونسب تخفيض تصل إلى 50% على أسعار الملابس، ولكن جميع محاولاته باءت بالفشل.
وعليه، لم يجد أحمد بُدًا من إغلاق متجره الذي يطل على شارعين في السوق، نتيجة عجزه عن دفع قيمة الإيجار التي تبلغ 14 ألف دولار سنويًا.
اقرأ/ي أيضًا: تجار وموظفون "رايحين جايين" على سجون قطاع غزة
وأشار أحمد إلى أن انعدام الحركة التجارية وبلوغها مستوى غير مسبوق من التدهور، كبّده وغيره العشرات من أصحاب المتاجر خسائر بالغة وأجبرهم على التوقيع على كمبيالات وشيكات من دون رصيد، كما أعجزهم عن دفع ثمن إيجار العمال.
ورأى أن واقع السوق يخبر بقدوم كارثة اقتصادية حقيقية، خاصة أن البضائع لم تعد تلقى رواجًا حتى بعدما انخفضت أسعارها إلى أقل من النصف.
وتشير المعطيات الاقتصادية إلى أن نسبة الفقر في قطاع غزة قد تنامت إلى 60%، فيما بلغت نسبة البطالة 46%، وانخفضت نسبة الأمن الغذائي إلى نحو 50%، وربما هذا ما عزز من فرص انهيار السوق المحلي عمومًا، بما في ذلك محلات الألبسة والأحذية وغيرها.
وفي غمرة سكون حركة البيع، وقف بائع الأحذية إياد جبر، حزينًا وهو يعاين عن قرب يافطة معلقة على ظهر باب متجره الموصد، وقد كتب عليها "المحل للإيجار".
واضطر جبر (45 عامًا) لإغلاق متجره بعد تعرضه لخسائر تفوق الـ50 ألف شيكل، وعجزه عن الإيفاء بثمن الإيجار (12 ألف دولا سنوياً) وسداد الديون لمستحقيها من التجار. يقول الرجل وهو يضع يديه في جيبه: "أعمل في هذه المهنة منذ نحو عشرين عامًا (..) لم يسبق لي أن عايشت واقعًا بائسًا مثل هذا، حتى في أكثر أوقات الحصار حلكةً وبؤسًا"، في إشارة إلى الأعوام الأولى من الحصار (2007) وافتقار الناس لأدنى مقومات العيش.
قطاع غزة وصل الآن حالة من التدهور لم يعرف لها مثيلاً حتى في سنوات الحصار الأولى بعد سيطرة حماس على قطاع غزة
وقال جبر: "ما يهوّن علينا الآن هو أننا لسنا وحدنا من يتعرض للخسارة ويفقد مصدر رزقه (..) في مجمع اللولو التجاري وحده أغلقت ستة محلات أبوابها أيضًا".
اقرأ/ي أيضًا: المصالحة لم تحرك مياه السيارات الراكدة في قطاع غزة
وكتب عدد كبير من مُلاك المحال التجارية على أبوابهم "المحل للإيجار"، بعدما اضطر المستأجرون لمغادرتها تحت وطأة العجز عن دفع ثمن الإيجار، وهو أمر يرى فيه خبراء الاقتصاد، مقدمة الانهيار الفعلي للحركة التجارية.
يترافق هذا الواقع مع إضرابات احتجاجية تحت شعار "بكفي حصار- بدنا نعيش"، شملت كافة المحلات التجارية والبسطات في مختلف محافظات قطاع غزة، وذلك احتجاجًا على الأوضاع الاقتصادية المتردية.
أمام هذه الحالة، طالب محمد العبسي، وهو صاحب مصنع لإنتاج الألبسة في مدينة غزة، الجهات المسؤولة بالوقوف أمام مسؤولياتها لوقف هذا التدهور الحاصل في الحركة التجارية، مبينًا أن التجار باتوا عاجزين عن دفع الديون المتراكمة على عاتقهم.
وقال العبسي: "كلما أطالب تاجرًا بدفع قيمة فواتير البضائع المتراكمة عليه، يقايضني علي شراء مسكنه بدلاً من سداد الديون"، مبيناً أن هذا العجز هو السبب الرئيسي وراء إعلان المئات من أصحاب المتاجر عن إفلاسهم وإغلاق متاجرهم.
تجار يعرضون منازلهم على أصحاب المصانع للمقايضة بقيمة فواتير البضائع المتراكمة عليهم
وتتمثل أبرز مؤشرات الانهيار الاقتصادي في غزة بوصول عدد العاطلين عن العمل إلى ربع مليون مواطن، وهي النسبة الأعلى عالميًا، فضلاً عن أن هناك أكثر من مليون شخص يتلقون مساعدات من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، إلى جانب مؤسسات إغاثية أخرى، وفق تقديرات الغرفة التجارية بغزة.
ويعزو المحلل الاقتصادي وائل الداية، تدهور الأوضاع الاقتصادية في قطاع غزة، إلى ثلاثة أسباب رئيسية، أولها تشديد الحصار المتراكم منذ عشر سنوات على غزة، وثانيها تقليص رواتب موظفي السلطة الفلسطينية في غزة إلى الثلث، وثالثها انخفاض حجم المساعدات الدولية إلى القطاع.
وأكد الداية أن استمرار هذه المسببات سيدفع باتجاه كارثة اقتصادية بالمعنى الحقيقي، "لأن الواقع يشير إلى ارتفاع غير مسبوق في معدلات البطالة والفقر، وهذا ما أسهم بشكل كامل في وقف الحركة التجارية في قطاع غزة، وإغلاق عشرات المحلات".
وبناء على المعطيات المتوفرة، فإن الإعلان التجاري الأشهر في غزة "المحل للإيجار"، سيظل آخذًا في التوسع، وسيشهد انتشارًا أكبر خلال الأيام المقبلة، ما لم تتدخل الجهات المعنية لوقف هذا الانهيار الاقتصادي الحاصل، لاسيما ونحن نطالع ظواهر خطيرة أبرزها، عرض بعض الفقراء أبناءهم للبيع، وآخرون ارتكبوا جرائم لسد حاجاتهم، في ظل عدم توفر مصادر للدخل.
اقرأ/ي أيضًا:
غزة: عائلات تجاور تجمعات الصرف الصحي هربًا من الغلاء