المُسحّراتي لفظٌ غَنيّ عن الشّرح والبَيان، فهو اسم دالٌ على فعل صاحبه، إذ هو من يوقظ النّيام قبل فَوات الأوان، فيَصدح صائحًا بالمَديح والذكر وَجَميلِ الأقوال طالبًا من الناس أن ينهضوا من نومهم لتناول السحور والاستعداد لواجب الصيام.
المسحراتي قد يكتفي بصوته وقد يحمل طبلًا أو أي أداة تُصدر صَوتًا وتُحدث قَرقَعةً لتجذب الانتباه وتطرق الآذان بدل طرق الأبواب
والمسحراتي قد يكتفي بصوته وقد يحمل طبلًا أو أي أداة تُصدر صَوتًا وتُحدث قَرقَعةً لتجذب الانتباه وتطرق الآذان بدل طرق الأبواب. ومهنة المسحراتي تطورت مع الوقت وتغيرت بِدءًا من صعود رجل على قمةٍ مُرتفعة لينادي للسحور مرورًا بالمُسحراتي المُتجوّل، وليس انتهاءً براكبي الدراجات الذين يُطبّلون ويزمرون وينادون للسحور.
مهن شهر اليقظَة
أشهَر المِهَن التّراثية المُرتبطة بِشَهرِ رمضان المبارك، التي نعرفها ونحرص على استدعائها كَأشكال فلكلورية هي مهنتي: الحكواتي والمُسحراتي، فأحدهما يَختَتِمُ سَهرة الليل بحكاياتِه وقصصه ويدفع الناس إلى نومهم مع نهاية أمسيته، والآخر يُخرجهم من نومهم إلى اليقظة ويدفعهم للتّنبّه قبل أّذن الفجر.
وَمهنة الحَكواتي في أَصلها مُقتصرة على الرجال دون النساء، ويوصف بها الرجل الذي يَسرد الملاحم البطولية التي تقوم على فكرة القتال والحروب ومواجهة الأهوال والأخطار، مثل سيرة أبو زيد الهلالي وعنترة بن شداد وحمزة البهلوان والظاهر بيبرس والزير سالم، وغيرها.
وتسمية الحكواتي لم تكن تَشمل النّساء راويات الحكايات الخرافية والقصص التراثية، ولا حتى الرجال الرّواة ممن يسردون حكايات الواقع الاجتماعي، إنها حَصرًا تَسميةٌ مُرتبطة بمجتمع الرجال وينفرد بها راوي السّير الملحمية التي خُلقت وصيغَت وقت الأزمات وعند ضَعف الأمة، وكان الهدف الأساسي منها شحذ هِمّة الرجال عبر تقدير البطولة وإعلاء شأن الأبطال من ذوي الهمّة والإقدام.
ولذا كان على الحكواتي في رمضان أن يُجهز حكاياته التي سَيسردها، ويرتب فصولها ويجدد مضمونها، ويستحضر حال الأمة من خلال وظيفته الخفية التي سَتُحدث أثرًا في نفوس المستمعين والمُتلقين، وهذا أهم مستوى في وظيفة الحكواتي وحكاياته، ثم يكون للترفيه والتسلية مستويات لا بأس بها، ومع الوقت صارت المهنة تراثًا تَعَطّل فيها أهم دور وصار الترفيه صِفَتُها الغالبة.
أمّا المهنة الرمضانية الثانية فهي المسحراتي، وقد قيل الكثير عن أصلها وتاريخها، وجرت محاولات كثيرة لاستعادة دور المسحراتي كَنوعٍ من المظاهر الشّعبية التّراثية الجَمالية رغم استغناء الناس عنه لما توفر لهم من منبهات توقِظهم للسحور، وبلوغ سَمعهم نداء المؤذن في المساجد بفعل مُكبرات الصوت. غير أن دور المسحراتي في هذا العام، عام حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة أظهر الحاجة إليه، فلا مآذن بقيت في غزة تنادي للصلاة بعد هدمها، ولا سُبل حياة تُشغل النّاس وتُبقيهم في يقظة حتى موعد السحور، فصار لا بُد من استدعاء المُسحراتي وإخراجه من طور تراثية الأداء وجمالية الفعل ليكون ميقاتهم الفعلي ومنبهم ومذكّرَهُم بوقت السحور.
وهذه العَودة للمسحراتي في هذا العام دفعتنا للحديث عن أصل صِنعته ووظيفته، وأهمية دوره ورسالته، بعيدًا عن القراءة السطحيّة لِدَوره كَمُنَبّهٍ للسحور والإقبال على تناول الطعام قبل الأذان، ذلك أن للمسحراتي دورًا مُجتمعيًا مُهمًا ورسالة جديرة بأن تُستعاد فلسطينيًا، إذ هي جوهر ما نحتاجه في هذه المهن التراثية، وهذا أهم ما يدفعنا للتمسك بالتراث وإبقاء الذاكرة الوطنية حيّة.
لا وقت للغَفلَة
يتجاوز فعل المسحراتي فكرة أن يقوم النّاس إلى الطعام، إذ أن له رسالة في اليَقظة وترك الغَفْلَة عن الواجب المفروض، فمن يَغفو عن سحوره سَيغفو عن واجب صلاته، ثم سيكون ضجورًا ذابلًا شاكيًا طوال نهاره بحجة الجوع والعطش، فيترك أو يُقصّر ما هو مطلوبٌ منه مِن مَهمات وواجبات، ولذا كان لا بُد من مُسحراتي يوقظ الناس، وهذا في أصل الفكرة وأوّل أمرها، وهو ما دفع الوالي العبّاسي على مصر عُتبة بن اسحاق سنة (238 ه) لأن يَنهض لها بنفسه كما يُقال لَمّا رأى الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، فخرج إليهم مناديًا: "يا عباد الله تسحروا فإن في السّحور بركة".
الوالي العبّاسي على مصر عُتبة بن اسحاق سنة (238 ه) نهض لها بنفسه كما يُقال لَمّا رأى الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، فخرج إليهم مناديًا: "يا عباد الله تسحروا فإن في السّحور بركة"
ثم صار المُسحراتي مع الوقت يُنادي للسحور مُرددًا الأقوال المسجوعة والمدائح المنظومة، ويُذَكّر بأحاديث فضل السحور، مارًا بالحاراتِ والأزقة مُناديًا على أهل البيوت بالاسم غير غافلًا عن شيء من مزاياهم وصفاتهم وأشغالهم، فظن مُتتبعوا الظاهرة أنها ولدت فقط للدعوة لملء البطون من الطعام، وغفلوا عن مَقصدها الأهم وَهدفها الأجل، وهو ترك الغَفلة نومًا عن المُستحبّات والطّاعات، وحسبنا أن نسمع قول المُسحراتي لننتبه لما يريد منا:
أيها النّوام قُومـــوا للفَلاح
واذكروا الله الذي أجرى الرياح
إن حَبيس الليل ولّى وراح
وتدانى عسكـر الصبح ولاح
اشربوا عجلى فقد جاء الصباح
وقد أبدع الشاعر المصري فؤاد حداد، حين انتبه للمسحراتي ودوره، وأبعَدَ عنه ظاهِرَ وظيفته الخارجي المرتبط بالنهوض إلى الطعام، وجعل له رسالة في اليقظة، والتّنبّه من الغفلة، ومن جميل نظمه قوله:
مسحراتي من جنود الأرض
منقراتي وكل دقة بفرض
أطلب غنايا زي أب ضناه
القدس لاحت في الطريق حاضناه
يا رب علمني العطش والجوع
واجعل لعيني دموع
واجعل لقلبي ضلوع
واجعلني صوت الشهيد
في النبض والتنهيد
شريان فلسطيني شجر مزروع
في الأرض جدر وفي الليالي فروع
يسمعني خال في كل بلدة وعم
جرح الملاجئ عمره ما يتلم
تفنى الليالي ولا يبور الدم
ولابد يوم أرجع ويمد في كل العرب حبلي
المشي طاب لي والدق على طبلي
تُراث حَيٌّ وَمُقاوم
أزعم كمُهتَمٍ بالتراث أننا من أغنى شعوب العالم إرثًا وذاكرة وتراثًا، في كل الحقول الحياتية والاجتماعية، ومردّ هذا الغنى تنبهنا المُبكر لخطورة ما يحاك لنا، ثم ما مرت به قضيتنا من نكبات وتهجير واستهداف مُستمر منذ نحو مائة عام، الأمر الذي جَعلنا نخوض معارك نتمسك من خلالها بالتراث ونمنع عنه النسيان والسرقة والاختطاف، وفي هذه العملية أنتجنا تراثًا يصون التراث ويحميه، فصار الغناء والحكاية والمثل الشعبي فعلًا مقاومًا يحكي عنّا وعن الأرض وعن التاريخ والماضي والحاضر والمستقبل، الأمر الذي علينا أن ننظر له بأنه أعظم تراثنا الحي الذي أنتجه شعبنا خلال مسيرة النضال لصون التراث وحمايتة، وهو ما علينا أن نتمسك به، فإنه لا تراث جدير بأن يحتفى به كتراث المواجهة والمقاومة.
ومن هذا التراث كانت صَنعة المُسحراتي الذي ينهض داعيًا لننتبه من الغَفلَةِ، وأن نترك النوم ونستعد للواجِبات والطاعات، وليس نهوضًا لأجل تناول الطعام، فقد كان من الملاحظ لدّي أن جُهود الشباب في استعادة دور المسحراتي اقتصرت على تراثية الشكل القديم، فأخرجوا المهنة من المتحف ولبسوا ثوبها ونادوا بذات الصوت واللغة والكلمات القديمة، ظنًّا منهم أن هذا إحياء للتراث وقد غفلوا أن هذا الشكل من الأداء كان له معنى وأهمية وضرورة في وقتها، الأمر الذي تنتفي الحاجة إليه الآن لاستغناء الناس عن المسحراتي بحكم الحداثة. ولذا لم يكن هناك معنى جدّي لهذا الدور سوى البُعد التراثي الشكلي، وهذا ليس أصل الكار والمهنة.
كان من المهم عند سَعينا لاستعادة شيء من تراث المهن القولية أن تعود حيّةً أيضًا في وظيفتها ومضمونها وليس في شكلها فقط، فوجود المسحراتي في مدينة القدس كان استعادَةً للفضاء المقدس والحيز العام المُغلق والمحاصر بفعل الاحتلال، وهذا كان كافي الدلالة إلى حدٍ ما، لكن وجوده في رام الله ونابلس والخليل وغيرها كان شَكليًا بلا روحٍ جادّة، لأنه رَكّز فقط على البُعد التراثي للمهنة قبل مائة عام، وذلك من خلال اللباس أو الأدوات والأهازيج والكلمات، فكان المُسحراتي كأنه ميت بُعِثَ في غير زمانه وأهله.
الأمر الذي رأينا في تجاوزه هذا العام إذ استعاد المُسحراتي دوره من خلال التجديد في رسالة اليقظة، والدّعوة للنهوض من سُبات الغفلة، فصار صوته وحضوره ذو رسالة معاصرة بقالب تراثي مُحبب ومستساغ، فانسجم لباسه وصوت طلبته مع أقواله المسجوعة بقالب تراثي، وصار لنا تراث حيّ قادر على الحياة والاستمرار.
مُسحراتي بنكهة القضية
أعادت قضية غزة وجُرحها المفتوح للمسحراتي دوره الأهم، وردّت إليه صوته الضائع، وأزاحت عن كاهله ما تَوهمه من تراثية الوظيفة حَصرًا، فانتبه لدَوره الحقيقي في الدّعوة للتنبّه لقضاياهُ الأهم التي يَنبغي أن لا يغفل الناس عنها بإدامة النوم، ومن جميل رمضان هذا العام على قسوته، أننا رأينا صورًا من هذه الحياة الجديدة لِدَور المُسحراتي في المدن والبلدات الفلسطينية.
ففي مخيم الدهيشة استدعى المسحراتي الهُتاف الوطني في مسيرات الشُهداء، فكانوا فريقًا لا شخصًا واحدًا، وبدأ مديحهم بما يُطمئن قلوب الأمهات، ويجعل من التضحية والشهادة محل تقدير وافتخار، واستدعيت نماذج المقاومة في غزة ونابلس وجنين، وكان من مديحهم:
من الدهيشة لَجنين .. وتحيتنا للعَرين
وتحيتنا لَجنين .. رفعت راسك يا فلسطين
يا نايم وحد مولاك .. واللي خلقك ما بِنساك
يا نايم الله يعطيك.. وادعي للرب تا يرضيك
وفي مدينة نابلس كان صوت المسحراتي لهذا العام يُنادي ببعث الحياة في النفوس ومذكرًا بقضيتهم الحاضرة في صيامهم، فرددوا الأقوال المألوفة والتي يعرفها غالبية الفلسطينيين والمرتبطة بالسّحور، ثم أضافوا لها قضية غزة:
ياللي نايم جوا الدور .. غَزتنا من غير سحور
يا نايم قوم اتسحر .. وادعي لغزة تتحرر
ادعوا لغزة يا أحباب .. ادعوا فالدُّعا مجاب
يا الله يا ذو العزة .. تنصر شعبنا بغزة
أما في مدينة جنين فالمُسحراتي كان ذكيًا ليلتقط تنبه الناس وحذرهم من الاحتلال، وما يحتاجون له خلال هذه الفترة بفعل كثرة الاقتحامات، فهو يُذكّر بِحاجز الجلمة شمال جنين، وَيذكر بطرق وأساليب الاحتلال في التسلل إلى المخيم لاغتيال أو اعتقال المقاومين، ويجعل ذلك جزءًا من المديح الرمضاني المرتبط بالسحور، كل ذلك مصحوبًا بإيقاعٍ على الطبول يتلاءم مع الكلمات:
حشودات عَ الجَلمة .. حشودات عَ الجَلمة
تَبِّع في باص مزوّر .. تَبِّعْ في باص مزوّر
تَبعوا فيه زَنّانِة .. تَبّعوا فيه ثَلاجِة
أمّا مُسحراتي غزة، الذي تجاوز دوره هذه العام البُعد الكرنفالي وأصبح ضرورة للذين يَسرقون غفوة من بين القصف في خيام اللجوء، فقد كان قادرًا على استدعاء الحالة العامة التي يمر بها القطاع، مذكرًا بصبر الناس، ومطمئنًا قلوبهم، ومما سجلته العدسات لمَديحِهم:
قوموا يا شعوب .. يا صامدين الحروب
وصلوا على الحبيب .. تطمئن القلوب