05-مايو-2020

صدرت في "إسرائيل"، الشهر الماضي (نيسان 2020)، رواية "المسيح القاسي"، بقلم رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلية الأسبق كارمي غيلون (70 سنة)، ويوسيف شافيط، الصحفي المخضرم؛ والكاتب الشهير الذي احتلت عدد من كتبه قائمة الكتب الأكثر مبيعًا لدى الإسرائيليين.

تطورات الحبكة المكثفة والأحداث والشخوص وتقنيات السرد تجعل بالإمكان الاعتقاد أنها مقتبسة من محيط متلاطم الأمواج من القصص الحقيقية

الرواية في 70 صفحة، تزخر بالإثارة وتضع القارئ من سطورها الأولى في مقام توقع السناريوهات البديلة وطرح التساؤلات المُلحة، ولا تُمهله لالتقاط الأنفاس بأحداثها المتسارعة بوتيرة ترفع النبض. تطورات الحبكة المكثفة والأحداث والشخوص وتقنيات السرد يجعل بالإمكان الاعتقاد أنها مقتبسة من محيط متلاطم الأمواج من القصص الحقيقية التي تتفوق على الخيال في تفاصيلها، انتهت باستقالة غيلون من رئاسة واحد من أهم أجهزة "إسرائيل" الاستخبارية بعد فشله في منع اغتيال رئيس الحكومة الأسبق اسحاق رابين.

الفكرة الرئيسية للرواية تقوم على "عقيدة تعجيل الخلاص بنزول المسيح" من خلال وسائل دنيوية وبممارسة العنف والانتقال من "دولة إسرائيل العلمانية" إلى "دولة الشريعة" التي يعتنقها تيار الصهيونية الدينية. 

كما تناول غيلون هذه المخاوف في أطروحة أكاديمية أثناء وجوده في صفوف "الشاباك"، حملت عنوان: "انتهاك القانون انطلاقًا من دوافع أيديولوجية في اليمين المتطرف في إسرائيل على خلفية الصراع الإسرائيلي العربي". وتلك الدراسة استشرفت المستقبل، فلم ينقضِ عقد من الزمن حتى باتت نسبة الضباط  في الجيش من أنصار الصهيونية الدينية تفوق نسبتهم من إجمالي السكان.

الحدث المؤسس في الرواية يشتعل في مطلعها، بعد أن يقرر اثنان من حاخامات تيار الصهيونية الدينية، أحدهما معروف بآرائه المتطرفة والثاني باعتداله، التدخل لـ"تعجيل الخلاص" من خلال النار وسفك الدماء، وصولاً إلى ما يشبه حربًا أهلية لإفقاد الحكومة الإسرائيلية شعبيتها، وإسقاطها، ثم التحالف مع اليهود الحريديم المتشددين دينيًا لإنشاء "دولة الشريعة".

الحدث المؤسس في الرواية يشتعل في مطلعها، بعد أن يقرر اثنان من حاخامات تيار الصهيونية الدينية، التدخل لـ"تعجيل الخلاص" من خلال النار وسفك الدماء

هذه الأحداث، في الرواية، تصل إلى تحالف الصهيونية الدينية التي تحتل جزءًا أكبر من حجمها من بؤر التأثير في الجيش والإعلام وأكاديميًا، مع "الحريديم" الذين يُمثلون خزانًا بشريًا يؤمن بحتمية "الخلاص"، لكن بانتظاره "بصبر جميل" ودون التدخل بجهد بشري لتبكير بزوغه.

من أهم ما يُميز الحبكة ركونها إلى رصيد واقعي هو في الواقع بديهة رجل المخابرات المحترف، مفادها "بمقدور تنظيم نخبوي أيديولوجي يطبق عناصره مبادئ العمل السري بحزم، الانتصار تكتيكيًا وربما إحراز نصر استراتيجي على أعتى أجهزة المخابرات، وخداع أبرع الضباط في ميدان حرب الأدمغة". 

يستعرض غيلون في الرواية دوره في اكتشاف "التنظيم اليهودي السري" الذي نفذ عمليات إرهابية أدت لمقتل فلسطينيين في عقد الثمانيات، وحاول تفجير المسجد الأقصى، وكذلك دوره في ملاحقة الخلايا الفلسطينية المسلحة في الانتفاضة الأولى.

وتستعرض الرواية تجنيد حاخام لضابط من الصهيونية الدينية يعمل في وحدة مختارة بجيش الاحتلال، ولأجل ذلك يعقد جلسة يلقنه فيها أن المبدأ الأول في عمل التنظيم أن "المعرفة تكون على قدر ما يحتاج لتنفيذ المهمة"، وذلك لضمان أمن العمل ونجاحه. يُذكّر هذا باللحظة التي اكتشف فيها غيلون، خارج الرواية، أن خبير المتفجرات في التنظيم اليهودي الذي حاول تفجير الأقصى كان ضابطًا في سلاح الهندسة التابع لجيش الاحتلال.  

وفي محاولاتهم لدفع الحكومة الإسرائيلية إلى الانهيار، يلجأ التنظيم اليهودي الإرهابي الذي تتحدث عنه الرواية إلى تنفيذ هجمات إرهابية تستهدف دور العبادة والمساجد والكنائس ثم الكُنس، بتدبير محكم وتنفيذ متقن، وتقود التحقيقات، كما خطط الحاخامات في مؤامراتهم، إلى تنظيم إسلامي مجهول، بينما تستمر الهجمات مستهدفة الدروز والمسلمين والمسيحيين واليهود، محدثة نهر دم. وأمام مشاهد النار التي تلتهم المساجد والكنائس والكُنس، يشعر حاخامات المؤامرة بالرضى، ويتضاعف الضغط على "الشاباك".

تحكي الرواية عن تنظيم يهودي يهاجم مساجد وكنائس وكنس، ويدفع التحقيقات إلى الاعتقاد أن تنظيمًا إسلاميًا نفذها

الرواية تُلبس رداء "المُخلص" لبطلها، إنه غدعون بن شوشان، رئيس الوحدة اليهودية في "الشاباك"، وهو ذات المنصب الذي شغله غيلون في شبابه، وهي وحدةٌ مسؤولةٌ عن مكافحة الارهاب والتجسس في صفوف اليهود. غدعون تقوده الشكوك التي تعززها القرائن ولاحقًا الأدلة إلى أن من يمسك بخيوط المؤامرة حاخامات.

ولا يحتاج القارئ ليبذل جهدًا معمقًا في خلفيات غيلون، ليصل إلى قناعة بأن الرواية ثأرٌ من تيار الصهيونية الدينية القومية قدمه بعد 25 عامًا من اغتيال رابين، على شكل وجبة باردة سامة.

رواية "المسيح القاسي" موجهةٌ للنخبة الأمنية الإسرائيلية، وهي تحمل رسائل خفية وراء سطورها، تدق ناقوس الخطر من نهاية عصر الاختراق العميق لتيار الصهيونية الدينية الذي برع غيلون بإدارته عبر الابتزاز الجنسي لتجنيد الجواسيس في قلب التنظيمات الإرهابية اليهودية. ففي أكثر من حالة لجأ الشاباك لدفع جواسيسه للزواج من بنات قيادات التنظيمات وعناصرها لاختراقها، كما وثقه فيلم "زوجات الشاباك" الذي بثه التلفزيون الإسرائيلي الرسمي.

"ترسم رواية المسيح المُخلص" أمام القارئ الإسرائيلي، خيالاً قد يتحول لواقع، وتقرع الجرس بعنف، لكن القارئ الفلسطيني يعتقد بناءً على مطالعته للأنباء المترجمة عن صحيفة "هآرتس"، أن مواعظ حاخامات الصهيونية الدينية هي دافع من أحرقوا الرضيع علي دوابشه وأسرته في دوما، ومن قبل حرقوا الطفل محمد أبو خضير، كما حرقوا مساجد وكنائس أخرى.

"ترسم رواية المسيح المُخلص" أمام القارئ الإسرائيلي، خيالاً قد يتحول لواقع، وتقرع الجرس بعنف

أما القارئ اللبناني فقد يتذكر اغتيال سعد الحريري، بينما القارئ العراقي قد يتذكر اغتيال محمد باقر الحكيم، حيث التدبير المحكم والتنفيذ الأمثل، والثمرة المرتجاة من هذه العمليات تفتيت المجتمع وإشعال حرب أهلية، بينها يتم اتهام تنظيم إسلامي مجهول بالتنفيذ.

لكن اللبناني والعراقي يُحرمان حتى الآن من مخلص يكون مثل غدعون بن شوشان، بطل الرواية، وهذا ربما يفسره العراقي بأن المؤامرة في بلاده تحركها مخابرات دولة وليس تنظيم، بينما يتساءل اللبناني: "لو أن عربيًا كتب رواية حول تصور مؤامرة دموية من تدبير الحاخامات يقتل فيها المسلم والدرزي والمسيحي واليهودي، ماذا سيكون مصيره؟".

خلاصة الأمر، أن الرواية فرصة نادرة تضع القارئ في أجواء عيادة الطب النفسي، يكون فيها هو الطبيب دون قصد، وعلى الأريكة عجوزٌ محنكٌ يتملكه الجزع من خطر يراه على "إسرائيل العلمانية"، فيروي برشاقة كوابيسه ويحتكر لنفسه فيها دور النذير الخفي، ويتقمص بجدارة دور الرائد الذي لا يكذب أهله.


اقرأ/ي أيضًا: 

يهوديات في سرير الشاباك

بالجنس والابتزاز.. الشاباك يخترق حتى المستوطنين