طلب طليق أميمة طبش أبناءهما الثلاثة "للاستضافة وقضاء رحلة ترفيهية معهم"، انقضى يومٌ وليلةٌ وحلّ اليوم التالي دون عودتهم، وبعد انتظار اتصال الوسيط لطمأنتها عليهم دون جدوى، اتصل أهلها بوالد الأطفال ليُفاجؤوا بهم يبكون لأمهم ويبلغونها بأنهم غادروا من غزة إلى الضفة الغربية.
الأب كان قد رتّب لكل شيءٍ قبل استضافة الأبناء الذين فوجئوا بجدتهم تحضرهم إليه على حاجز بيت حانون/ إيرز شمال قطاع غزة ثم وجدوا أنفسهم في الجانب الآخر خلف الحاجز ولا يمكنهم العودة.
آباء وأمهات يأخذون أطفالهم من قطاع غزة إلى الضفة بعد انتهاء حقهم في الحضانة، والقضاء يعجز عن إعادتهم
منذ ذلك الحين تعيش الأم الأربعينية اضطراب ما بعد الصدمة، ولا تجف لها عينٌ حرقة على أطفالها الذين "اختُطفوا" من حضنها، وقد طرقت كل أبواب العدالة مُحاوِلَة استعادة أطفالها، لكن انفصال منظومة القضاء بين قطاع غزة والضفة الغربية حال دون ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: سقط التعليم وزُفّت الطفلة عروسًا
تروي أُميمة لـ الترا فلسطين ما حدث قائلة: "لم يكن يسأل عنهم أبدًا بعد انفصالي عنه، وكان معظم أوقاته في الضفة، إذا ذهبوا إلى بيته يقضون وقتهم مع جدتهم، وفي آخر زيارة قالوا لي: بابا حكالنا جهزت إلكم هدايا من الضفة وأخذتهم جدتهم على أساس قضاء يوم معه".
كان الأبناء فرحين بصحبة الجدة أملاً بالوصول السريع لاستلام الهدايا المزعومة، لكنهم وجدوا أنفسهم على الحاجز وقد سلّمتهم الجدة للوالد في الطرف الآخر بعد أن "كان قد أتم كل المعاملات والتنسيقات لإدخالهم بمعرفته" قالت أميمة.
تصف تلك اللحظة، "حينما اتصلنا برقمه بعد محاولات للاتصال بالوسيط دون فائدة، ردوا هم عليّ وصاروا يبكون، ليس لأنه كذّب عليهم بلعبة الهدايا، وإنما لأنه اختطفهم من حضني غصبًا عنهم ودون علمي".
حاولت الأم الخروج فورًا إلى الضفة الغربية، فقصدت أكثر من جهة لمساعدتها في ذلك، وغريزة الأمومة تدفعها حتى للجنون، لكنها صُدمت بمنعها من الخروج بسبب عمرها. تقول: "توجهت للقضاء وحاولت رفع قضايا، لاسترجاع أطفالي عبر المحامين، لكن كل الطرق كانت مسدودة، وحدثت الحرب الأخيرة على غزة وحاولت بعدها تقديم تصريح خروج لكن كل مرة يرفضونني".
ترفض سلطات الاحتلال الإسرائيلي منح تصاريح لمعظم سكان قطاع غزة، حتى المرضى منهم تحت ذرائع تتعلق بالعمر والجنس وسبب الخروج، وتضع قيودًا كثيرة على تنقل الأشخاص عبر المنفذ الوحيد معه وهو حاجز بيت حانون.
يعيش الأبناء الثلاثة حاليًا في شقة مستأجرة مع مجموعة من الطلاب، يحدثون أمهم على فترات متباعدة عبر الهاتف، فلا تزيد هذه الاتصالات حياتها إلا جحيمًا، وتعود لبكائهم كما لو أنهم خُطفوا منها اليوم.
تصف شقيقةُ أميمة حالتها قائلة: "لليوم ترفض الزواج وحياتها نواح عليهم. حتى على الأكل ما بتتهنى، أكلت شربت خرجت أو نامت تستذكرهم وتتساءل وهي تبكي ياترى شو عاملين، مبسوطين أو لا، بردانين خائفين وعلى هذا المنوال على مدار الساعة".
الانقسام بين الضفة وغزة جعل تنفيذ الأحكام الصادرة في طرف غير ممكن في طرف آخر
قصة أُميمة واحدة من قصصٍ عديدةٍ استغلَّ فيها أحد أطراف الصراع حالة الانقسام بين الضفة وغزة، وقد كانت الأم هي الفاعل في بعض الحالات، كما حدث في قصة أخرى حدّثتنا عنها المحامية نجوي أبو شهلا مفضلة عدم كشف هوية السيدة التي هربت بأبنائها أثناء استضافتها لهم، وقد كان أكبرهم أنهى فترة حضانته عندها.
اقرأ/ي أيضًا: غزة: زوجات مغتربين بين تضييق الأهل ونار الشوق
كانت نجوى تترافع عن الأم "ع.ع" في قضية الطلاق إثر محاولات فاشلة لإصلاح الخلاف الذي وقع بينهما بسبب زواجه عليها، عندما فوجئت بالزوج "أ.ج" يتصل بها سائلاً عن أبنائه لاستعادتهم بعد انتهاء ساعات الاستضافة، ليتبين مع الفحص أنها غادرت غزة بصحبتهم.
تقول المحامية نجوى: "الأطفال في سن حضانة الأم وأعمارهم (3،4،7 أعوام) لكنها تنازلت لحضانة الولد للأب، كانوا في دوامة مشاكل ورفعنا قضايا عليه وأوامر حبس لعدم التزامه بالدفع، ودائمًا لا تجده السلطات لتنفيذ الأوامر. في نهاية الأمر كأن الزوجة قررت الانتقام منه بالخروج من غزة على غير علمه ليلة استضافتهم جميعًا".
رفع الزوج قضية ضم للأطفال بعد خروجهم مع والدتهم وحصل على حكم قضائي بذلك، إلا أنه صُدم بـ"استحالة التنفيذ لعدم تواجد الأطفال في أرض القطاع" وفق المحامية التي أضافت أن الأب أرسل القرار لجهاتٍ قضائية وشرطية في الضفة، لكن دون جدوى، وبقيت القضية عالقة حتى اليوم.
وفي قضية أخرى حدّثتنا عنها المحامية نجوى أيضًا، توفي الزوج في رام الله التي غادر إليها بعد أن طلق زوجته تاركًا في حضانتها أربع بنات. توجهت الأم إلى القضاء للحصول على حق بناتها في الميراث، وطلبت ما يعادل سُدُس التركة الموجودة في رام الله، لكن والد الزوج -جد البنات- رفض التنازل عن ما يخص البنات من تركة ابنه، وهنا لم تجد المحامية أي مخرج لتحصيل حق البنات "لعدم إمكانية التعامل مع الطرف الآخر من القضاء في الضفة" كما قالت.
القاضي الشرعي زياد عبد الحميد أبو الحاج، يؤكد أنه وبالرغم من عدم وجود نصٍ في القانون الشرعي أو المدني حول اختطاف أحد الزوجين للأولاد بعد انفصالهما، إلا أن المادتين 392 و393 من قانون الأحوال الشخصية تمنع أحدهما من السفر للخارج بالأطفال إلا بإذن الطرف الآخر.
ويُبين أبو الحاج لـ الترا فلسطين أن "الانقسام أثّر كثيرًا في التباعد القضائي"، إذ أصبح من الصعب تنفيذ القرارات والأحكام الصادرة في قطاع غزة إذا كان تنفيذها يجب أن يتم في الضفة، أو العكس، لكنه أشار إلى تنفيذ بعض الأحكام في أمور مالية محددة، بسبب اتحاد عمل البنوك تحت سلطة واحدة هي سلطة النقد.
وأضاف، "لكن فيما يخص الحضانة والاستضافة والمشاهدة، فلم يُثبت أنه تم التعاون مع أي قضية بشأنهما بين الجانبين بسبب التباعد وعدم وجود اتصال بين المنظومتين القضائيتين"، موضحًا أن حواجز الاحتلال بين الطرفين شكلت عائقًا جغرافيًا حال دون تنفيذ الأحكام بخصوص الأولاد، بسبب رفض سلطات الاحتلال التعامل مع هذه القضايا في ظل الحصار الذي يفرضه على قطاع غزة.
وكانت آخر جولة المصالحة باءت بالفشل العام الماضي، بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها رئيس الوزراء السابق رامي الحمدالله، واتهمت السلطة الفلسطينية، حماس بالوقوف خلفها، فيما أكدت حماس أن أشخاصًا تابعين للأجهزة الأمنية في الضفة يقفون وراءها.
اقرأ/ي أيضًا:
حين يُضيع الصلح حقوق الضحايا.. أوراق من غزة