تبتسم "غال غدوت" لعدسات الصحفيين؛ تبتسم وتستعرض جسدها الرياضيّ القوي لتمنحهم المزيد من الخيارات لالتقاط الصور. وبكثير من الثقة تجيب الممثلة على أسئلة الصحفيين عن العلاقة بين حياتها الشخصية ودورها كبطلة في فيلم المرأة الخارقة (wonder women)، وتتمكن من خلال شخصيتها القوية ووجهها الجميل من إقناع الصحافة والجمهور بأنّها حقًّا "المرأة الخارقة" التي تسعى لتخليص العالم من الحروب والصراعات، فهي أم وزوجة، ممثلة وعارضة أزياء، ومجنّدة سابقة في الجيش الإسرائيلي، كما تعرّف غدوت على نفسها.
الفيلم يستكمل عمليّة السرقة الإسرائيليّة؛ وهذه المرّة سرقة بمعناها الحرفيّ؛ سرقة دور المرأة الفلسطينية الشُجاعة التي تواجه الاحتلال
إذًا فالبطلة صهيونية بامتياز، إنّه لخبرٌ سيءٌ للنساء، خاصة أن تكون بطلة الفيلم الذي جاء ليقدّم صورة مختلفة عن المرأة ودورها في إنهاء الحروب وقدرتها على أن تكون جميلة وقوية في ذات الوقت، بل وفي تقديم شخصية نسائيّة شجاعة توازي شخصية باتمان وسوبر مان التي تستهوي الأطفال. من المؤسف أن ترتبط هذه الشخصية في أذهاننا بمجندة إسرائيلية سابقة، ومحرّضة على القتل.
المجندة "غدوت" التي بات العالم –لسوء حظنا- يعرفها بالمرأة الخارقة، لا تفوِّت فرصة للحديث عن خدمتها العسكرية أمام أي سؤال عن الفيلم. وهي لم تكتف بالخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي لمدة سنتين، بل وأكدت على دعمها لسياسة جيش بلادها في تصفية الفلسطينيين من خلال رسالة وجهتها إبان الحرب على قطاع غزة عام 2014 قالت فيها: "أبعث حبي وصلاتي لأبناء بلدي الإسرائيليين، وخاصة لجميع الفتيان والفتيات الذين يخاطرون بحياتهم لحماية وطني ضد الأفعال المروعة التي تقوم بها حماس، المختبئة مثل الجبناء خلف النساء والأطفال.. سنتغلب عليهم".
اقرأ/ي أيضًا: "ببغاء" فيلم يحكي الوجع الفلسطيني
بالنسبة لأي امرأة فلسطينية رفضت إخلاء بيتها رغم تهديدات الهدم، أو تعرّضت للتفتيش على الحواجز، أو فقدت أفرادًا من عائلتها أمام عينيها جرّاء القصف الإسرائيلي، فإنّ الفيلم الذي يتحدث الجميع عن عظمته يأتي كاستكمال لعملية السرقة الإسرائيلية. وهذه المرة سرقة للدور بمعناها الحرفي.. دور المرأة الشجاعة. السرقة لعبة إسرائيل المفضّلة، فقد سرقت دور الضحية بذات الدهاء الذي سرقت به الأرض، أمّا أن تسرق دور المرأة الشجاعة التي طالما ارتبطت بالنساء اللواتي يواجهن الاحتلال والظلم والتمييز أينما كان فهذا كثيرٌ حقًا.
نتحدث دومًا عن زيف الرواية الإسرائيلية، ونطلب من العالم تكذيبها، ولكننا في المقابل لا نقدم تصوّرًا ذكيًا وواضحًا عن روايتنا الحقيقية
وكالعادة قاطعت العديد من الدول العربية الفيلم ومنعت عرضه في صالات السينما الخاصة بها احتجاجًا على مشاركة الممثلة الإسرائيلية. ورغم نبل المبادرة وأهميتها، إلا أن التساؤل الأهم هو: هل هذا يكفي؟ فلطالما قاطعنا ولكننا وبعد أن نقاطع لا نقدم البديل، رغم أننا عربيًا نمتلك الموارد. ومع هذا التراخي سيمل العالم منّا يومًا ما. فنحن نتحدث كثيرًا عن زيف الرواية الإسرائيلية، ونطلب من العالم تكذيبها، ولكننا في بالمقابل لا نقدم تصورًا ذكيًا وواضحًا عن الرواية الحقيقية التي نتغنى بامتلاكها، وبينما نتهاون نحن في رواية قصتنا، تتفنن إسرائيل بتجميل صورتها وإيصال ما يناسبها عنها وعنّا للعالم كلّه.
قد يبدو هذا غريبًا، ولكن في عالم يحاول تقليص الفجوات بين الشعوب ونشر ثقافة التسامح وتقبل الآخرين كم سيكون صعبًا أن تعلن مقاطعتك لفيلم مليء بمفاهيم الحق والعدالة بسبب وجود ممثلة إسرائيلية فيه، سيبدو هذا فعلًا بلا معنى لكل الذين لا يدركون ماهية صراعنا مع إسرائيل، وما هو الاحتلال الإسرائيلي الذي نعيش ظلمه منذ عقود، لكلّ الذين لا يعرفون تفاصيل الحكاية الفلسطينية سنبدو نحن المجرمين إذا لم يعجبنا هذا الفيلم.
في كل موسم رمضاني يستاء الكثيرون ممّا تقدمه الشاشات العربية من مسلسلات وبرامج مرتفعة الكلفة مكررة المحتوى، أغلبها لا يقدّم أي جديد إلّا المزيد من الإسفاف والاستخفاف بالمشاهد، الذي ورغم سخطه على المحتوى إلا أنّه يستمرّ في المتابعة، وكأنّ متابعة الافلام والمسلسلات باتت شرًا لا بُدّ منه، ومضيعة للوقت لا غنى عنها!
وفي مقابل ضياعنا وتخبّطنا وتداولنا لأخبار أجور الممثلين ونزاعاتهم، فإن صور المُجنّدة الإسرائيلية -التي لا نعلم كم طفلًا قتلت أو أصابت- تجتاح العالم بفساتينها الرقيقة ووجهها الجذّاب وكلامها الموزون، وابتسامات لا تتوقف، فخرًا بما قدمته لبلدها "إسرائيل". أمّا نحن فلا نملك إلا أن نلهو بِشدّة، وأن نطالب العالم بذات الشِدة أن لا يُصدّق أي مجدٍ تصنعه "إسرائيل".
اقرأ/ي أيضًا:
"خارج الإطار".. حكاية شعب في بحثه عن صورته