"بديش الـ100 دولار، ولا بدي ميّ وكهربا ببلاش، بس بدي بناتي الأربعة يتجوزن"، يقول الخمسيني إسحق رمضان، الذي يسكن شارع الشهداء في البلدة القديمة بمدينة الخليل. يتحدث رمضان عن نسبة مرتفعة في العنوسة بين الجنسين، نتيجة للتشديدات العسكرية غير العادية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة ومحيطها، ومنها الحواجز والبوابات الإلكترونية.
يشير رمضان إلى أنّ أحد جيرانه رحل عن البلدة القديمة خوفًا على بناته الستة من العنوسة، وهن خريجات جامعيّات، ثم بعد أشهر من الرحيل تزوجت الواحدة تلو الأخرى.
لا يجد أبناء البلدة القديمة في الخليل وبناتها من يرغب الارتباط بهم بسهولة، نتيجة الحصار الإسرائيلي الخانق للمنطقة منذ سنوات
محمد المحتسب (27 عامًا) يقول إنه تلقى رفضًا صريحًا من عائلة فتاة تقدّم لخطبتها سابقًا، إذ قال له أبوها "أنت تسكن في منطقة محاطة بالحواجز والبوابات الإلكترونية، لا يمكنني أن أجازف بتزويجك ابنتي في ظل هكذا أوضاع".
اقرأ/ي أيضًا: هل تقبل الخليل القسمة على أربع؟
يسكن المحتسب على بعد أمتار قليلة من المسجد الإبراهيمي الذي يتوسط الخليل العتيقة، ويعمل دليلًا سياحيًا. تزوّج لاحقًا من فتاة أخرى، لكن أهلها يتجنّبون زيارتها في كثير من المناسبات الاجتماعية، بسبب الضرب المبرح الذي تعرضت له والدتها ذات زيارة، ولولا تدخل الأهالي لأطلق عليها جنود الاحتلال النار.
الشابة مادلين أبو شمسية (21 عامًا) من حي تل ارميدة، يؤرقها زفافها لزوجها من ديوان عائلتها، وتشعر بالغصّة كلّ صباح، كونها حرمت من إلقاء نظرة الوداع على جدران البيت الذي ضمّها واحتضنها طوال عقدين، وبدون الأغاني والأهازيج التراثية.
اقرأ/ي أيضًا: خيمة للزواج.. حُلمٌ مستحيل في سوسيا
تقول مادلين: "كنت اضطر لتحمُّل أعباء عبور الحواجز للالتقاء بزوجي خارج حدود منطقتنا المغلقة، وقاسمني هو أنصاف التعب والخوف، كون الوصول إلى منزلنا أمر يشبه صناعة الموت، فالطريق إليه مرصوف بالجنود المدججين بشهية الموت والقتل".
بعد زواجها، حرمت سلطات الاحتلال مادلين من الدخول إلى البلدة القديمة عبر حاجز "الكونتينر"، والمسافة من الحاجز إلى منزل والدها دقيقتين، بينما اليوم تحتاج 20 دقيقة حتى تقطع بسيارتها، طريقًا التفافيًا وعرًا، ويصعب عليها قطعه مشيًا على الأقدام لشدة وعورته.
وكشفت مصادر محلية لـ الترا فلسطين عن حدوث أربع حالات طلاق بسبب إجراءات الاحتلال التي تقطع الطرق، وتمنع الوصول، وتعزل عائلات عن أخرى، ناهيك عن عشرات حالات الانفصال قبل الزواج، ومئات حالات الرفض المبكّر للارتباط.
حالات طلاق، وانفصال قبل الزواج، وقعت نتيجة إجراءات الاحتلال التي جعلت الحياة في الخليل العتيقة شبه مستحيلة
تؤكد على هذه المعلومات، أمل الجعبة، عضو الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وتقول لـ الترا فلسطين إن الاتحاد وثّق بالفعل حالات انفصال في العلاقات المجتمعية بعد خطبة شبان لشابات يسكنون في محيط المسجد الإبراهيمي، إضافة لتراجع شابات عن الزواج من شبان يسكنون في المنطقة، بعد أول زيارة للمكان.
اقرأ/ي أيضًا: مساجد الخليل: المستوطنون والجيش يتولون الإرهاب والتهويد
وأضافت، "يعتبر الاحتلال الإسرائيلي العائق الأكبر أمام تكوين الأسر في المنطقة المحيطة بالإبراهيمي، جرّاء ارتفاع عدد الحواجز والبوابات الإلكترونية والانتهاكات اليومية للقوانين، وأن كافة البرامج والدورات التي عقدت لم تفلح في كسر سياسة الاحتلال في التقريب بين أبناء المنطقة ومحيطها الخارجي".
الحاج مفيد الشرباتي (49 عامًا) يسكن في شارع الشهداء المغلق منذ مجزرة المسجد الإبراهيمي عام 1994، يقول: "أصعب اللحظات هي تلك التي اضطررت فيها أن تخرج ابنتي إلى زوجها من ديوان العائلة الواقع خارج المناطق المغلقة، كون الاحتلال رفض منح زوجها تصريح دخول إلى البلدة القديمة لعريسها من أجل إخراجها من بيتي".
واعتاد الحاج الشرباتي على اصطحاب ابنته خارج المنطقة المغلقة لرؤية خطيبها، وتحمّلا معًا البرد القارس والأمطار، وقد تكرر الأمر ذاته خلال خطوبة ابنته الثانية. يقول إنه لا يمانع في تحمُّل أي شيء لجبر خاطر بناته، ومنحهن حقّ التمتع بتفاصيل الخطوبة مثل أي عروس.
تُضطر ابنة الخليل العتيقة خلال خطوبتها إلى مغادرة المنطقة بالكامل للالتقاء بخطيبها، وتكابد الأمرين على الحواجز والبوابات الإلكترونية لأجل ذلك
هذا التمييز ضد أهالي الخليل من صناعة سلطات الاحتلال، من ألفه إلى يائه، وليس من صنع مجتمع الخليل. يؤكد على ذلك بلال الملاح، الباحث في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، الذي رأى في الوقت ذاته أنّ كسر هذه المعاناة مرتبط بالدرجة التعليمية للراغبين في الزواج، ومستوى الدخل.
وأشار في حديثه لـ الترا فلسطين إلى أن الخليل العتيقة ليست المنطقة الوحيدة التي تكابد هذه المعاناة في العالم، مؤكدًا أنّ هذه الإجراءات تهجيرية تهدف إلى إبعاد أبناء البلدة القديمة عنها من أجل إحلال المستوطنين بدلًا منهم.
وتنشر سلطات الاحتلال شائعات عن أبناء البلدة القديمة، تعلل بها إجراءاتها التنكيلية بحقهم، ومنعها دخول فلسطينيين من خارج المنطقة إليها، ومنها الترويج للمخدرات، وفق مهند الجعبري، أمين سرّ حركة فتح في الخليل العتيقة، الذي أكد أن سلطات الاحتلال تحرم شبان المنطقة من حقوقهم الأساسية في الحياة، ومنها الزواج وحرية الحركة والتنقل، لأهداف تهجيرية واستيطانية.
اقرأ/ي أيضًا:
الخليل: مراكز أشعة غير مرخصة وأجهزة متهالكة