سأشاهد فيلم "أميرة" معبئًا بما قيل عنه، ذلك كله يجعل المشاهدة قلقة ومترقبة، حاولت أن أضع كل ذلك جانبًا، كما حاولت أن أجد لنفسي مدخلاً كي لا أحكم عليه قبل وأثناء المشاهدة، ولأجل ذلك أخرت الكتابة عنه يومين.
السطحية التي حملتها معالجة القضية، وضعف التمثيل الذي بنى على ضعف السيناريو يجعل المشاهد الفلسطيني يتندر على حوارات الممثلين وتصرفاتهم
والحقيقة أن أشياء كثيرة تجعلك غاضبًا من هكذا عمل، بعيدًا عن غضب المواطنين المستحق، أسباب ذلك كثيرة، وهنا نود أن نسلم بالإبداع وبحقه أن يتناول كل الموضوعات، ونعارض فكرة المنع مهما بدا المنتج الإبداعي متعارضًا مع رؤيتنا وتصوراتنا وقيمنا.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "أميرة": تغيير حقائق وخلط بين الخيال والواقع
ومن أسباب الغضب أن الفيلم في حد ذاته لا يستحق الجدل المثار حوله، إلا من باب كون حالة من رفض السطحية والتساهل في تناول قضايا وموضوعات لها حساسيتها لدى جمهور معين، أما النقد فدوره أن يفكك مقولات المبدعين وأفكارهم ورؤاهم الفنية، فالسطحية التي حملتها معالجة القضية، وضعف التمثيل الذي بنى على ضعف السيناريو يجعل المشاهد الفلسطيني يتندر على حوارات الممثلين وتصرفاتهم.
لقد بدا الممثلون الفلسطينيون، المشهود لهم، باهتين تمامًا.
ومن وجهة نظرنا يعتبر "أميرة" فيلمًا مثاليًا يدرسه طلبة الجامعات ودارسو السينما، فيه المعالجة الركيكة التي حملها سيناريو ضعيف، وسط غياب أي إشارات على مشاهد أو تحولات تحمل دلالات ورمزيات تجعل الفيلم يذهب بنا بعيدًا، إلا من باب الإساءة للفلسطيني. فالفيلم الذي قام على فكرة خيالية استسلم للتنميط والصور الذهنية عن هذا الشعب، نساؤه ومقاوموه وأسراه وعموم أفراده.
السؤال الأول
وبعد المشاهدة سأطرح سؤالاً: "ما الذي سيزعج الفلسطينيين في فيلم أميرة للمخرج المصري محمد دياب؟ وسيكون الجواب هو "كل شيء"، "كل شيء" حرفيًا تنطبق على هذا الفيلم.
سأطرح سؤالاً: "ما الذي سيزعج الفلسطينيين في فيلم أميرة للمخرج المصري محمد دياب؟ وسيكون الجواب هو "كل شيء"، "كل شيء" حرفيًا تنطبق على هذا الفيلم
وسيبدو لمن يشاهد الفيلم أن موضوع نطفة مهربة من أسير فلسطيني قام سجان إسرائيلي بتبديلها بنطفة تخصه وقادت إلى أن تنجب زوجة هذا الأسير فتاة تحمل اسم "أميرة" (أي من أم فلسطينية وأب إسرائيلي) ذلك الحدث بحد ذاته يعتبر هامشيًا بالمقارنة مع ما لحق ذلك من موضوعات.
اقرأ/ي أيضًا: 7 أفلام فلسطينية وصلت العالمية
لن أقول إن موضوع تهريب النطفة عبر وسيط السجان ليس موضوعًا مهمًا، لكنه أمام تقديمه صورًا للمجتمع الفلسطيني عمادها العدوانية والشك وعدم التسامح والعنف يصبح الأمر أكثر أهمية.
فالتوقف عند موضوع تهريب النطف، الذي يعلن البعض رفضهم تناوله على قاعدة أنه لا يجوز أن يقدم الأمر مع أي احتمال للخطأ في عملية التهريب، أمرٌ يسيرٌ عندما تشاهد الفيلم كله، عندها سيخرج المشاهد برؤية أشمل عن خطاب هذا الفيلم ومقولاته الفنية.
ولا يبدو أن الفيلم يحاول أن يقدم إدانة لواقع الأسرى في ظل كونهم ضحايا السياسات الأمنية الإسرائيلية، إنما يتجلى ويخلص في تقديم إدانة للفلسطينيين، فالحكاية الكلية للفيلم تسرد أن "أميرة" الفتاة الهجينة هي ضحية الفلسطينيين الذين رفضوها ولم يتمكنوا من التعامل معها بإنسانية تستحقها، (فقد تلقت عدوانية وتنمرًا ورفضًا من الفتيات صديقاتها في المدرسة، إضافة إلى نظرات الشارع المشمئزة، وصولاً إلى مهاجمة محل التصوير الذي تعمل فيه، وتوقع الخطر على حياتها مع تشكك "المقاومة الفلسطينية" في كونها جاسوسة).
لا يبدو أن الفيلم يحاول أن يقدم إدانة لواقع الأسرى في ظل كونهم ضحايا السياسات الأمنية الإسرائيلية، إنما يتجلى ويخلص في تقديم إدانة للفلسطينيين
والمشكلة أن كل ذلك يحضر بسذاجة تامة، وهو أمر سيقود البطلة أميرة إلى التفكير بالانتقام من دون أن تمتلك أي مقومات نضالية (يسألها المقاوم حبيبها: بتعرفي تطخي؟ فترد: طخيت مرة، بدبر حالي)، تعطيها المقاومة المسلحة مسدسا وترمي بها إلى الحدود بغباء شديد وجهل حيث تأخذ على ورقة صغيرة اسم الجندي الإسرائيلي (السجان صاحب النطفة) تخيل معي.
اقرأ/ي أيضًا: 8 أفلام أجنبيّة تناولت القضيّة الفلسطينيّة
وفي أسفل نفق مليء بالمياه الآسنة تجلس خائفة وتقوم بالبحث عن الجندي الإسرائيلي على "جوجل" عبر جوالها (سطحية لا مثيل لها)، لتكتشف لحظتها عائلة الجندي الجميلة من خلال صوره المبهجة برفقة عائلته، لم يعرض المخرج مثلاً صوره مسلحًا يقتل الفلسطينيين.
هنا تحديدًا، لا ندري إن كانت لحظة خوف أو إحساس بدفء حضن الوالد/ العدو، فتقرر رمي المسدس والعودة من حيث جاءت.
لكن المخرج لا يرتضي ذلك، فيقرر أن الجنود يجب ان يكتشفوا أمرها، فيطلبوا منها الوقوف، فتأخذ بالركض مسرعة نحو موتها، وأمام التحذيرات بضرورة الوقوف وإلا "بنطخك" يطلق الجندي النار فيرديها قتيلة.
وأمام هذه الحالة الميلودرامية بقي أمام المخرج أن يحضر الجندي السجان ليعاين ابنته التي لا يعرفها، اللعبة التي شارك فيها السجان ونسي أمرها تمامًا. ينظر الجندي السابق على الجثمان الممدد بالمشرحة من دون أي علامة، لكن الضابط الإسرائيلي يشرح له القصة لتخرج دمعة مع عينيه، تلك الدمعة تأخذنا إلى يافطة معلقة بالسماء مكتوب عليها الشهيدة وصورة أميرة. يرافق ذلك أغنية دينية مسيحية تشير إلى أنها المسيح ابن سيدتنا مريم العذراء.
هل كان الجندي يمارس لعبة ما عندما قرر تبديل النطفة؟ هل فعل ذلك بوعي وقصد؟ لا ندري، ومخرج العمل لم يقدم ذلك، لم يكن مشغولاً بذلك الصهيوني الجلاد الذي تعاطف مع الفلسطيني وسمح له بتهريب نطفته ليقوم بتبديلها كما نكتشف، لكن المؤكد أن المخرج تعامل مع موضوع فيلمه على أنه "لعبة" من دون أي امتلاك لمقوماتها، أو أنه يعي تمامًا ما يريد قوله عن ذلك الفلسطيني الضحية والعاجز جنسيًا والعنيف والذي يفتقد القدرة على التسامح أو الشفقة.
المؤكد أن المخرج تعامل مع موضوع فيلمه على أنه "لعبة" من دون أي امتلاك لمقوماتها، أو أنه يعي تمامًا ما يريد قوله عن ذلك الفلسطيني الضحية والعاجز جنسيًا والعنيف والذي يفتقد القدرة على التسامح أو الشفقة
هنا ينتهي الفيلم بجملة الغموض التي تشير إلى أن "طرق تهريب النطف تظل غامضة" لكن الجميع تأكد من صحة النسب. الغموض الذي يقابله التأكيد على صحة النسب، تلك الصحة التي لا تعني الفيلم ولا مخرجه إطلاقًا، لكنها تمنح المخرج وفريق العمل ما يوفر لهما راحة غسل أيديهما من هذه القضية التي بدا أنها أكبر منهم فنيًا، ومن كل قدرات عائلته التي كتبت السيناريو الركيك. ولن أحدثكم هنا عن أسوأ أداء تمثيلي لطاقم كبير من الممثلين الفلسطينيين.
فأميرة في الفيلم ضحية من طرفين، "إسرائيل" وفلسطين، وهذا أولا.
السؤال الثاني
أما ثانيًا، فيحق لنا طرح سؤال: كيف تعامل الفلسطيني (وهنا تحديدًا عائلة أميرة بكل مكوناتها) بعد انكشاف حقيقة ما جرى مع "أميرة" التي تبين أنها ابنة السجان؟ بدون أي تأمل وفورًا بمعنى أن ردة الفعل جاءت لحظيًا، حيث بدأ الشك والاتهام يسيطران على المشهد كله. الجميع يوجه نظرات الاتهام نحو الأم، "مين أبوها؟؟؟!"، اجتماعات على مستوى العائلة والحزب، فحص "دي أن إي" لجميع العائلة وأقاربها وأصدقائها، عدوانية مفرطة تجاه الأم، المقاومة الفلسطينية أيضًا دخلت على خط العمل الدرامي، "بجوز جاسوسة".
المشكلة أن المعالجة الدرامية لردة فعل غوغائية غير متوافقة دراميًا، إنه تطور درامي وتصاعد في الأحداث يتعارض مع بناء العائلة في الفيلم حيث بدت واعية وداعمة للنساء، وهو أمر لم يتوافق مع تحولها الدرامي المجنون المشحون بالغضب والهشاشة تجاه الأم وابنتها، الأسير ذاته (تمثيل علي سليمان) طرح فورًا سؤال: "من مين؟".
هذه مشكلة كبيرة في هذا الفيلم الذي يصلح أن يكون عنوانًا للسطحية والخفة، عنوانًا للمعالجة الخارجية لهذا الموضوع المعقد وعدم القدرة على إظهار الصراعات الداخلية العميقة والمركبة لو سلمنا بصدق التناول.
الفيلم يصلح أن يكون عنوانًا للسطحية والخفة، عنوانًا للمعالجة الخارجية لهذا الموضوع المعقد وعدم القدرة على إظهار الصراعات الداخلية العميقة والمركبة لو سلمنا بصدق التناول
الفيلم قدم الفلسطيني على أنها عائلة غير قادرة على إدارة شؤون حياتها، مفضوحة، كل البلدة أصبحت على علم بالفضيحة، كلها هنا أقصد كلها تمامًا كما قدم الفيلم، في إشارة إلى أن الفلسطيني مفضوح وعاجز عن إدارة حياته الخاصة والمعقدة والمركبة. إنه ميل المخرج للفضيحة، لتقديم القصة وجعلها تتصعد رويدًا رويدًا وصولاً إلى تهديد حياة "أميرة" التي أصبحت في الحياة الفلسطينية ضحية مضاعفة أمام غلطة جندي رغب أن يدخل لعبة التلاعب بالنطف، لعبة تشبه سلوك الجنود الذي يتنافسون فيما يصيب عين شاب فلسطيني في ساحات المواجهة.
اقرأ/ي أيضًا: "7 أيّام في عينتيبي".. محاولة فاشلة في الحياد
"أميرة" ذات الزرع الإسرائيلي أصبحت وردة شقراء وفتاة جميلة لكنها بين أيدي الفلسطينيين، فماذا فعلوا بها؟ عماهم الحقد والكراهية وعدم القدرة على المسامحة، فذهبوا بها إلى "انتحارها/ الانتقام" بدلاً من نحرها مباشرة.
السؤال الثالث
هنا نصبح أمام السؤال الثالث الذي مفاده: من الذي قتل أميرة؟ ويبدو للمشاهد أن من قام بالقتل المادي هو الاحتلال، أي رصاصة الجندي الذي حذرها مرارًا من الهرب فما كان منه إلا أن إطلق النار على مخربة محتملة، لكن معنويًا من قتلها هو الفلسطيني الذي رفضها وأوصلها إلى حتفها.
أخيرًا، هل أحدثكم عن الصورة التي قدمها الفيلم عن فلسطين؟ عن مراكز الإخصاب التي بدت أشبه بمراكز صحية فقيرة؟ عن سلوك الأطباء وطريقة تعاملهم مع ملف شائك مثل تهريب النطف؟ كلها تنميطات وتصورات في خيال مخرج لا يعرف فلسطين إلا من خلال شاشات التلفاز. أما عموم مشاهد الفيلم فقد غلب عليها أنها ليلية، وفي سيارات ضيقة، وكادرات تصوير محاصرة بإطارات أو نوافذ.
صحيح أن من حق المخرج أن يقول ما يريد، لكن ليتحملنا قليلاً أيضًا، فمن حق الناس أن تقول أيضًا ما تريد، ومن واجبه أن ينصت ويسمع جيدًا. أما حديث المنتج الفلسطيني هاني أبو أسعد الذي طلب فيه من كل الجهات المسؤولة "فتح حوارٍ تكون فيه الكلمة الأخيرة للأسرى" فهو كلام لا قيمة له، فالكلمة الأخيرة تبقى للفن والإبداع وهو امتحان يسقط فيه الفيلم بجداره.
اقرأ/ي أيضًا: