أثار إعلان الحكومة نيتها تغيير ألوان طرابيش سيارت التكسي في الضفة الغربية موجة من السخرية عبر منصات التواصل الاجتماعي، تركزت خلالها التعليقات على الألوان التي اختيرت كرمز لكل محافظة. يدفعنا ذلك لنسأل جهات الاختصاص عن آلية اختيارها للألوان. فالمفترض اختيار الألوان المُتصلة بمظهر الحياة العامة بوعي، لأنها ستبث رسائل ثقافية - أيديلوجية تُشكل ذهنية الناس في المرحلة التالية لتعودهم على هذه الألوان.
دوام التعامل مع ذات اللون يجعل له ارتباطًا ببعض الجوانب الشخصية، الأمر الذي يجعلنا نقبل أو نرفض التعاطي مع أي لون جديد
يشير علماء النّفس إلى وجود رابطٍ بين الإنسان واللون، ودوام التعامل مع ذات اللون يجعل له ارتباطًا ببعض الجوانب الشخصية، الأمر الذي يجعلنا نقبل أو نرفض التعاطي مع أي لون جديد. فاللون الأبيض لثوب العروس صار عُرفًا دالاً على الفرح، ولون الحداد على الميت أسود، وهي ألوان يصعب تقبل غيرها لاعتياد الناس عليها.
اقرأ/ي أيضًا: طرابيش التاكسي بألوان جديدة
ورمزية الألوان عربيًا حاضرة قديمًا كما حديثًا، ونجد خبرها في الدين والمعتقدات والممارسات والسياسة والحياة العامة، ولعل أشهر ما عُرف من قول العرب عنها أبيات الشاعر صفي الدين الحلي:
سلي الرّماح العوالي عن معالينا .. واستشهدي البيض هل خاب الرّجا فينا
بيـض صنائِعـُنا، ســودٌ وقائعُـنـا .. خضـرٌ مـرابعُـنـا، حُـمـرٌ مـواضـينـا
ويمكننا وعي دلالة الألوان بوضوح حين نبحث عنها في الأزياء الشعبيبة مثلاً، حيث لكل منطقة زيّها المميز الذي يعكس جانبًا من تاريخها وحياتها الاقتصادية وبيئتها. فالألوان في الأزياء جزءٌ من تشكل الثوب في بيئته التي ولد فيها، وحين نقرأ الثوب وعلاقته بالهوية الوطنية فإننا نبحث عن الزخارف والتطريز واختلاف الألوان والرموز المُحاكة على أقمشة الحرير والمخمل.
كما نجد رمزية اللون مع أعلام ورايات الأحزاب التاريخية التي شكلت المجتمع في بلاد الشام طوال قرون، وأقصد هنا حزبي: القيس واليمن، وهما حزبان يمثلان قبائل العرب الشمالية (عدنان) والجنوبية (قحطان)، وجذور الصراع بينهما قديمة شُنت فيها حروب وسفكت دماء، وبقيت تلك الصراعات في فلسطين حتى نهاية العهد العثماني.
كانت راية صف القيس حمراء بينما راية صف اليمن بيضاء، وكان من السهل جدًا إثارة أحد الفريقين بمجرد امتهان أو احتقار أي شيء يحمل لون علمه
وكانت راية صف القيس حمراء بينما راية صف اليمن بيضاء، وكان من السهل جدًا إثارة أحد الفريقين بمجرد امتهان أو احتقار أي شيء يحمل لون علمه، حتى قيل أن حربًا وقعت بينهما في إحدى القرى لأن امرأة من اليمن أمسكت بدجاجة حمراء وداستها بقدمها، فثار القيسية وشنوا حربًا ضد اليمنية لأنهم اعتبروا إهانة اللون إهانة لهم.
اقرأ/ي أيضًا: التطريز.. "شيفرا" في الثوب الفلسطيني
وصار حضور الأعلام لكل فريق إلزاميًا في مواكب موسم النبي موسى، وفي زفّة العرس وفاردته، والأشد من ذلك أنه كان على العروس أن تلبس غطاءً للرأس (طرحه) أو ثوبًا (عباءة) بلون حزب قبيلتها، فإذا كانت العروس من قرية تتبع صف اليمن وتزوجت عند قرية تتبع صف القيس، توجّب عليها أن تلبس الثوب الأبيض أو غطاء الرأس الأبيض في قريتها، وعند اقترابها من قرية القيس تقلب ثوبها أو طرحتها للون الأحمر، وإلا فإنها تُمنع من دخول القرية، وقد تحدث حربٌ بين القريتين بسبب ذلك.
الأمر ذاته بالنسبة لملابس الرجال، حيث كانوا ينأون بأنفسهم عن لبس أثواب بألوان خُصومهم، بل وبلغ الأمر عندهم لاحتقار تلك الألوان وتجنبها، وصارت العمامة البيضاء غطاءً لرؤوس الرجال اليمنيين، والعمامة الحمراء غطاءً رأس القيسية.
واستمر خلاف الألوان بينهما حتى دخل في الطعام وأصول الضيافة، فبلادنا عَرفت نوعًا من الحلوى يسمى "قيس ويمن"، حيث يصنع اليمنيون "الهيطلية" البيضاء ويجعلون تحتها العسل أو الدبس الأحمر، أما القيسية فيجعلون "الهيطلية" من الأسفل ويعلو فوقها العسل أو الدبس. والرمزية هنا واضحة في أي اللونين يكون من الأعلى، ولا إهانة أكبر من أن تُقَدّمَ هذه الحلوى لخصمك ولون حزبه من الأسفل.
صارت العمامة البيضاء غطاءً لرؤوس الرجال اليمنيين، والعمامة الحمراء غطاءً رأس القيسية
كما يمكننا قراءة دلالة الألوان في أعلام الدول، ومنها العلم الفلسطيني، وما ترمز له ألوانه الأربعة، ولأجل ذلك كان الاحتلال يُجرم الناس بمجرد رفعهم للعلم في الشوارع أو المظاهرات، بل ويمنع ظهور أي إنتاج فني بهذه الألوان.
اقرأ/ي أيضًا: عن "قَتْلة" العريس في يوم دخلته
والأمر ذاته مع أعلام الفصائل الفلسطينية التي صارت رمزًا دالاً عليها، فأنت تربط لون الراية مباشرة بالفصيل الذي يُمثله، فاللون الأخضر صار لحركة حماس، والأصفر لحركة فتح، والأحمر لفصائل اليسار الفلسطيني، والأسود لحركة الجهاد الإسلامي. وعادة ما يمازح الناس الأشخاص المعروفين بانتمائهم لحزب معين إذا ارتدوا لون حزب آخر.
عالميًا يتم توظيف الألوان لترمز لمهن وتخصصات وسلع وأغراض محددة، ولا يُنكر أحد رمزية اللون في الجمال والجنس والحياة العامة، وقد شَكّل هذا التسليع العالمي للألوان علاقتنا معها كمستهلكين للثقافة المستوردة، وإن كان في إرثنا رمزية وقداسة لبعض الألوان كالأخضر والأبيض والأحمر.
من خلال تصفحنا للمنشورات والتعليقات على منصات التواصل الاجتماعي حول ألوان طرابيش سيارت التكسي المنوي تغييرها بحسب قرار الحكومة، نجد أنها تعليقات ذات دلالة سياسية واجتماعية مهمة.
ومن الواضح أن كثيرًا من المنشورات والتعليقات جاء من منطلقين، الأول: رفض فكرة الطرابيش الملونة، والثاني: التنذر والسخرية على الألوان على اعتبارها غريبة ولا تعبر عن المحافظات التي رُمز لها بها.
لقد ذهبت بعض التعليقات للتركيز على "أنوثة" الألوان و"رقَّتها المفرطة" كالزهري لمدينة بيت لحم، والبرتقالي للخليل، والأحمر المطفي لأريحا. وكانت أجرأ التعليقات تندرًا من نصيب اللون الذي خُصص لمدينة نابلس وهو الأحمر الفاتح (الشفاف)، حيث رُبط بالإيحاء النفسي له. أما اللون الليلكي الذي خُصص لمدينة دورا فكانت التعليقات عليه طريفة جدًا وتعكس علاقتنا مع الألوان وأسمائها المحلية.
خلاصة الأمر في التعليقات عبر منصات التواصل الاجتماعي على ألوان الطرابيش هو ضرورة التنبه لمزاج الجماعة في التعاطي مع الألوان التي ستصبح هوية تربط التكسي بالمنطقة الجغرافية التي ينتمي لها أو يُسمح له بالعمل بها، خاصة مع خشية البعض من أن يتم إسقاط لون الطربوش على المنطقة المحسوب عليها وعلى أهلها، فيتم وصف الناس بألوان طرابيش سياراتهم، وهو تخوف مُبرر، إذ سبق وأن استخدم رقم لوحة السيارة الذي يرمز للمحافظة في موجة من التعليقات العنصرية قبل سنوات.
اقرأ/ي أيضًا: