عاد الشاب يحيى بربخ (27 سنة) -صاحب التسجيل الصوتي الشهير "راح أبو أدهم يما.. أكلنا السمك"- إلى حضن والدته وعائلته في مدينة خانيونس، بعدما نجا من الموت غرقًا، على إثر غرق مركب كان يقله مع تسعة مهاجرين آخرين في عرض البحر، أثناء محاولتهم الهجرة من السواحل التركية إلى اليونان مطلع شهر تشرين ثاني/نوفمبر الجاري.
محاولة الهجرة التي كادت تنتهي بالغرق سبقتها محاولتان فاشلتان، أولاهما سقط القارب في الماء فور تشغيله، والثانية تبين أن في القارب خمسة ثقوب
يُلازم بربخ طفليه منذ وصوله إلى بيته، وهما اللذان خرج في هذه الرحلة "بحثًا عن حياة كريمة ومستقبل أفضل لهما" كما يقول، "فقد كنت أسمع أن الهجرة من تركيا إلى اليونان سهلة، لكن هناك وجدت أن الأمور هناك مختلفة بالكلية، فهناك تجار بشر ومهربون لا يرون الشخص سوى حزمة من الدولارات".
ويوضح بربخ، أن محاولة الهجرة التي كادت تنتهي بالغرق سبقتها محاولتان فاشلتان، في أولاهما سقط محرك القارب المطاطي في الماء فور تشغيله، وفي الثانية تبين بعد دخولهم البحر أن المركب به خمسة ثقوب، فاتصلوا بالإنقاذ التركي الذي أنقذ جميع الركاب.
أما في المحاولة الثالثة، يُضيف بربخ، فتم الاتفاق مع المهرب على توفير مركب "JET BOAT" سريع وآمن، وأن يستقله سبعة أشخاص فقط مقابل أن يدفع كلٌ منهم 3 آلاف دولار.
ويُبين، أنه عندما حانت لحظة الصفر فوجئوا بأن العدد 10 أشخاص والمركب صغيرٌ جدًا وليس بالمواصفات المتفق عليها، بينما زعم أحد مساعدي "المهرب" أن هذا المركب سيكون في المرحلة الأولى فقط من الرحلة (مسافة 5 كم) داخل البحر، وبعدها سيرسل القارب السريع لمواصلة الرحلة حتى الشواطئ اليونانية، بذريعة أنهم يريدون أن لا تكتشف الشرطة التركية الأمر.
وأضاف بربخ، "لم يكن أمامنا من خيار سوى تصديق هذه الوعود، وبالفعل انطلقنا في المركب الصغير وسط أمواج البحر العالية، والظلام الدامس، وطوال وقت الرحلة كنا نسأل قائد المركب الذي لف وجهه بقطعة من القماش ولم يظهر منه سوى عينيه عن موعد وصول القارب السريع، وكان يرد علينا بالقول: ما تقلقوا سيصل بعد قليل".
بدأ المركب يغرق في الماء، فقفزوا منه جميعًا عدا ثلاثة أشخاص "استسلموا لقدرهم"
ويتابع، "قطعنا مسافة ثمانية كيلو مترات داخل البحر ولم يصل إلينا المركب المنتظر، حينها أدركنا أنه تم خداعنا من قبل المهرب. وفي هذه اللحظات بدأت أمواج البحر ترتفع أكثر من ذي قبل وبدأت المياه تتسلل إلى داخل المركب الصغير من كل الاتجاهات بكل سهولة، فيما كنا نحاول أن نفرغها أولاً بأول باستخدام المعاطف التي كنا نرتديها لكن دون جدوى".
في هذه اللحظات، وفقًا لبربخ، بدأ المركب يغرق في الماء، فقفزوا منه جميعًا عدا ثلاثة أشخاص "استسلموا لقدرهم". يقول: "كنت أنظر إليهم وهم يغرقون مع المركب دون أي حراك حتى غرق المركب بالكامل".
يستذكر بربخ تلك اللحظات بحزن شديد، ويقول: "تفرقنا في المياه ولم يعد أحد يرى الآخر، كانت المياه باردة جدًا والظلام دامس. كنت أصرخ على باقي أصدقائي دون أن يجيبني أحد منهم، كنت بالكاد أستطيع التقاط أنفاسي بسبب ارتفاع الأمواج، ومكثت على هذه الحالة ساعتين ونصف حتى حضر الإنقاذ التركي".
كان بربخ ثاني شخص يتم انتشاله من المياه إلى سطح مركب الإنقاذ، وعندما تم انتشال الشخص الثالث لاحظ وجود هاتف معلق في رقبته، فاتصل بوالدته لإخبارها بنجاته من الموت. ويقول: "لم أكن أدرك لحظتها ماذا قلت، وحتى هذه اللحظة أرفض سماع تلك الرسالة الصوتية لأنها تعيد لي الذكريات المؤلمة".
ويضيف بربخ، أنهم بعد إنقاذهم علموا بأن قائد المركب شخصٌ فلسطيني يسعى للهجرة إلى اليونان، ولم يسبق له أن قاد مركبًا من قبل، مبينًا أن المهرب الرئيسي اتفق معه بأن يقود المركب مقابل دفعه مبلغ ألفي دولار بدلاً من ثلاثة آلاف. ونوَّه أن تواصلهم مع المهرب الرئيسي كان عبر الواتساب فقط.
بعد إنقاذهم علموا بأن قائد المركب شخصٌ فلسطيني يسعى للهجرة إلى اليونان، ولم يسبق له أن قاد مركبًا من قبل
بعد إنقاذهم نُقل بربخ ورفاقه إلى أحد المرافئ البحرية التركية، ومنه إلى أحد السجون. يقول: "لم نتمكن من تغيير ملابسنا المبللة بالمياه وسط البرد الشديد لما يزيد عن 20 ساعة، قبل أن نتعرف على بعض الشباب الفلسطينيين الذين أشفقوا على حالنا وأعطونا بعض الملابس والطعام".
ويوضح، أنهم ظلوا في السجن أسبوعًا كاملاً تعرضوا خلاله لمعاملة سيئة في السجن، دون أن تتواصل معهم السفارة الفلسطينية في تركيا. وتابع، "لم يكن يلتقي بنا أحد، وكنا محجوزين في أربعة كرفانات بينهم ساحة صغيرة محاطة بسياج معدني، فيما كانت حصة الطعام للشخص الواحد هي عبوة مياه صغيرة وقطعة من البسكويت فقط طوال اليوم".
خلال وجود بربخ في السجن، عثر خفر السواحل التركي على جثة الشاب أنس أبو رجيلة بعدما قذفتها الأمواج إلى شاطئ، فطلبت السلطات التركية منه التعرف على الجثة. يصف تلك اللحظة المؤلمة قائلاً: "مكثت ربع ساعة وأنا أنظر إلى بقايا الجثة دون أن أتمكن من التعرف على هوية صاحبها، رغم معرفتي السابقة بأنس، فقد كانت الجثة بدون أي معالم. وبعد أن مددتي يدي داخل معطفه وجدته مسبحة خشبية كان يحملها أنس قبل صعود المركب، فتأكدت أنها جثته".
وأوضح، أنهم بعد أسبوع من الاعتقال نُقلوا لأحد مراكز الشرطة التركية، وهو يبعد عن السجن مسافة أربع ساعات، وهناك تم إطلاق سراحهم بحلول الساعة الواحدة فجرًا، مضيفًا، "لم نكن نملك أي نقود أو وسيلة اتصال. حاولنا المبيت في أحد الفنادق إلا أن جميع الفنادق طردتنا، فقضينا ليلتنا في حديقة عامة".
في اليوم التالي، طلب بربخ ورفاقه مساعدة أشخاص مارين في الشارع، ليتمكن من العودة إلى اسطنبول وإنهاء إجراءات السفر والعودة إلى عائلته في غزة، بينما قرر بقية الناجين البقاء في تركيا "بحثًا عن حياة كريمة لهم ولأسرهم".
اقرأ/ي أيضًا: