لا تملك زهرةٌ في تراث العرب وأدبهم، قصصًا وأساطير عن جمالها وقيمتها وأصلها، كما تملك شقائق النعمان، فهي زهرة الشهداء والأساطير والحب والجمال، وهذا ما يبدو واضحًا أيضًا في التراث الشعبي الفلسطيني.
وشقائق النعمان، من النباتات التي تنبت نهاية فصل الشتاء إلى أول فصل الربيع، مُؤذنة ببدء موسم جديد، وبدء دورةٍ جديدةٍ من الحياة في فصول السنة. ومن ذلك قول الفلاحين بانتهاء موسم بذار الحبوب، "طلع النرجس والحنون ظب بذارك يا مجنون".
شقائق النعمان لا تعيش أكثر من أسبوعين، وظهورها يعلن انقضاء فصل الشتاء وبدء فصل الربيع
وشقائق النعمان نبتة حولية ساقها رفيع غَض مُنتصب، لها عدة ألوانٍ كالزهري والقرنفلي والأرجواني والأبيض والأصفر، وأشهرها الأحمر القاني، الذي يوحي بروعةٍ وإحساس خارقين.
اقرأ/ي أيضًا: الشتاء في لهجتنا العاميّة
ولا تعيش شقائق النعمان مُنفردة، إذ توصف بأنها جماعية العيش والمنبت، وتتكاثر عن طريق البذور التي تخفيها تحت لحائها. فتكون في تجمعاتٍ كبيرةٍ، وعلى مسافاتٍ واسعةٍ، وخاصة في الأرض البور المشبعة بالمطر.
غير أن هذه النبتة قصيرة العُمر لأنها رقيقة واهنة الساق، سُرعان ما تهزمها شمس الربيع الدافئة، فيقدر عمرها بين أسبوع وأسبوعين، لكنها موغلة في السحر والفتنة والروعة، وتعد رمزًا للمحبة.
وزهرتها تشبه زهرة الرمان، ويقال لها حنون، ودحنون، وشقائق النعمان، وزهرة النساء، وزهرة الدم. أمّا اسمها العلمي فهو "الشقّار الإكليلي". ولهذه الزهرة فوائد كما في الطب العربي القديم، وقد عدد داود الأنطاكي في تذكرته جملة كبيرة من فوائدها وأهميتها ودورها العلاجي.
وارتبطت شقائق النعمان بالغزل وأشعار الجمال والحب، وهي ترمز إلى الشوق وانتظار المحبوب. وفي تراثنا الشعبي نجد الحنون وشقائق النعمان حاضرًا في الوصف والتشبيه، فيقولون: "وجهه أحمر مثل الحنون". ومن ذلك ما في الدلعونا الشعبية من أبياتٍ تصف المحبوب والشوق له:
يا ام التَّنوره وشَبَرها لايق .. ضميني بحضنك أربع دقايق
قلبي مزهر مثل الشقايق .. بالله اسمعي كلامي وارحمونا
وقولهم:
على دَلعونا وشو هالصبيه .. والخد لَحمر حنونه بريه
ولما حاكيتها ما سألت فيه.. وأنا بحبها صرت مجنونا
وقولهم:
على دلـعونا هي يا دَلعِـتنا .. ويـش اللي جابك على حارتنـا
أتمنى من الله تصيري جارتنا .. ويطلع الحنون في البساتينا
وقولهم:
يا بيت الشّعر يا بو الشقايق .. يا اللي حولك نابت زهر الشقايق
والله يا خَـلق كلامي لايـق .. من شـوف العذارا دورت مجنونا
وقولهم:
الورد الأحمر فتح على أمو .. يطيح الجنة هَللي يشمو
حبيب القلب لما بتضمو .. بتصير الروح مثل الحنونا
وشقائق النعمان فلسطينيًا ترمز إلى الشهداء ودمهم الذي روّى الأرض لرمزية لونها، وتكاد تكون زهرتنا الوطنية الأولى الأكثر حضورًا في المشهد الريفي. وقد حاول الاحتلال الإسرائيلي سرقتها واعتبارها "زهرة إسرائيل الوطنية"، لتضاف إلى قائمة غير قصيرة من الإرث الفلسطيني الذي نهبه الاحتلال ونسبه لنفسه.
وفي تسميتها، قيل إن العرب الأوائل هُم أول من اهتم بهذه النبتة، ونسبوا للنعمان بن المنذر ملك الحيرة قصصًا حول ذلك. منها تنبُهُه لجمالها وأمره بحمايتها وزراعتها حول قصره المعروف باسم الخورنق، فهي الزهرة التي أحبها الملك وحماها وارتبطت به.
تُنسب "شقائق النعمان" إلى ملك الحيرة النعمان بن المنذر، وتنسبها رواياتٌ أخرى إلى أساطير كنعانية وفينيقية
وقال بعضهم، بل نبتت على قبر النعمان بن المنذر بعد مقتله على يد ملك الفرس، بسبب رفضه تزويج ابنته غصبًا. وقيل في الروايات الشعبية بأن شقيقات النعمان لما جلسن باكياتٍ على قبره حُزنًا على مقتله؛ نبتت هذه الزهرة الحمراء القانية فَنُسبت لهن، "شقائق النعمان"، وذلك لفرط حُبهن له وحزنهن عليه. وهناك عدة رواياتٍ بصيغٍ أخرى، غير أنها لا تُبعد عن محور ارتباط هذه النبتة بالنعمان بن المنذر.
وذهب بعضهم لأبعد من ذلك في رواية حكاية الزهرة الحمراء، واستخرجوا من الأساطير القديمة حكايات تجعل للونها الأحمر القاني بُعدًا أسطوريًا، كحكاية حُب أدونيس وعشتار، كما في الميثيولوجيا الفينيقية، الذي قتله خنزيرٌ بريٌ اعترضه في طريقه، أو أسطورة دماء إله الخصب والنماء "بعل"، ودمه المتناثر بسبب جرحه، كما في الأسطورة المنسوبة للكنعانيين. وورد في الأساطير البابلية وغيرها من الحضارات أيضًا ما يُشبه ذلك، ويجعلها زهرة دماء المحبوبة المُتناثرة على الأرض، أو دماء العشيق المغدور.
وللَّغة قولٌ في هذه الزهرة الحمراء، فقيل إن كلمة "النعمان" اسم من أسماء الدّم كما في العربية، ولذا فإن هذه الزهرة شقيقة الدّم في اللون. ومثله ما يُقال "النساء شقائق الرجال".
وقيل بأن أصل كلمة النعمان في العربية هي "النحمان"، وتعني القائم من الموت. وفي السريانية الفعل "نحم" يعني بُعث حيًا. والإبدال من الحاء إلى العين كثيرٌ في العربية القديمة والحديثة.
وبين أسطورة شقائق النعمان وحكايتها ورمزيتها الساحرة، تبقى هذه الزهرة علامة فارقة بين فصلين وموسمين، فمع طلوعها نودع الشتاء بخيره وأمطاره، ونستقبل الربيع بوروده وأزهاره، وتنقلب فلسطين بجبالها وسهولها إلى جنات خضراء تُزينها الأزهار من كُل الألوان. وتبقى هذه النبتة برمزيتها كزهرةٍ للشهداء، نتذكرهم كلما شاهدنا فاتنية لونها، ونؤمن بأن دماء عطائهم وجودهم في سبيل حُرية أوطانهم ستزهر كُل ربيع حنونًا ونرجسًا وريحانًا.
اقرأ/ي أيضًا:
"أبو قاسم وحريمه" في الموروث الشعبي!