يحب أن يسمع الناس قصصهم من جديد على لسان الحكواتية، حتى لو كانت قصص النزوح والألم، وهذا ما يفعلونه وهم مشدوهين إلى دمى الماريونيت المعلقة بالخيطان، بل هي تشبههم، فهم معلقون إلى المجهول تحرّكهم الأحداث الجسام، وحركات النزوح المتكررة، كلما أباد الاحتلال منطقة جديدة.
الحكواتي هذه المرة اسم دمية صنعها مهدي كريرة، يحرّكها بالخيوط أمام ساكني الخيام، يروي فيها قصة الحرب، وأحيانًا يكون حوارًا بين دميتين في مسرح ارتجالي بسيط بين الخيام، طفلة/دمية من حي النصر وطفل/دمية من بيت لاهيا والتقيا في مخيم للنزوح.
كريرة مبدع بالكتابة والشعر، فهو لا يصنع الدمى فقط، بل يكتب النصوص التي تلعبها أيضًا
ويشاهد ويسمع الحكاية المئات من البالغين والأطفال، ففي ظلّ غياب وسائل التسلية من أجهزة التلفزة والحاسوب والمسارح والنوادي، تصبح دمى الماريونيت مصدر التسلية الوحيد للكثيرين، ومصدرًا للوعي أيضًا فهي تعيد قصص الحرب لكن من منظور تربوي ومعلوماتي.
رحلة صناعة الماريونيت
ويقول كريرة الذي هو في الأصل مدرب معتمد من مؤسسات دولية لإدخال الدمى إلى التعليم النشط، إنه في كل عرض هناك رسالة جديدة للأطفال وعائلاتهم، فمثلًا لا يتنمر طفل على طفل لأنه يرتدي حذاءً كبيرًا أو حذاء أخته، وألّا يلعبوا بأجسامٍ غريبةٍ ملقاة على الأرض أو بين الركام.
كريرة مبدع بالكتابة والشعر، فهو لا يصنع الدمى فقط، بل يكتب النصوص التي تلعبها أيضًا، وبدأت تلك الموهبة قبل 18 عامًا قضاها في مشوارٍ طويل من الخطأ والصواب في استخدام مختلف المواد؛ كالخشب والبالونات كي يصنع الماريونيت في ظلّ غيابها تمامًا عن قطاع غزة كصناعة وفن.
ويتابع شارحًا رحلته تلك "آمن بي صديقي أشرف شيخو الذي كان ينضم لي أحيانًا ونحاول صناعة دمية معًا، ثم ينشغل عني بعمله، وحين يشتاق للدمى يعود، وهكذا حتى نجحنا بصناعة أول دمية بعد تعليم ذاتي لسنوات من مختلف مصادر التعليم المتاحة عبر الإنترنت".
يضحك كريرة وهو يستغلّ الوقت في أكل وجبة خفيفة بعد جولة عروض على مخيمات الجنوب، ويضيف: "أول مرة نجحت في صنع دمية وكان يبلغ طولها حوالي المتر ونصف علقتها ليلًا في الصالون، ونمت، حتى استيقظت على صوت زوجتي تصرخ مفزوعة فقد اعتقدت أن هناك حرامي في الصالون، ضحكنا كثيرًا وقتها، وكانت بداية حياتنا مع الدمى".
زوجة كريرة سحر الميدنة تساعده الآن في أغلب عروضه، وكذلك يفعل أطفاله الستة، ففريق كريرة "خيوط" الذي كوّنه للعمل في عروض الدمى في مدينة غزة تفرّق، فهناك من بقي بشمال القطاع، أو نزح إلى الجنوب وبعضهم إلى الوسط، وآخرين فقدوا أهلهم، ولم يعودوا قادرين على الانضمام إلى الفريق مرة أخرى، ومنهم من سافر إلى خارج القطاع.
كريرة لم يكفّ يومًا عن الإبداع، سواء عاشت غزة الحرب أو السلم، فمنذ عمر المراهقة كان عضو هيئة تحرير في نشرة يراعات وهي نشرة أدبية للمراهقين صدرت ورقية لأعوام عن مؤسسة تامر، ثم انتقل إلى الدراما والمسرح وطرق التدريس غير الاعتيادية، وأسس أول حالة مسرح دمى في قطاع غزة بعد محاولة فرنسية خجولة نهاية التسعينات في مسرح هولست شرق غزة لم تستمر.
🎥 "الماريونيت" دمى تروي قصص الحرب وأكثر لأطفال #غزة.. هكذا أعاد صانع الدمى مهدي كريرة إحياء وسائل الترفيه في مخيمات النزوح.@palestineultra pic.twitter.com/spnnIngDP4
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) October 27, 2024
هل استشهدت دُماي؟
حين بدأ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، ورغم أنه فقد من عائلته 70 شهيدًا، 50 منهم في ضربةٍ واحدة، إلّا أنه قرر ألا يستسلم ويقاوم الحزن بطريقته؛ بأن يكتب ويحرك الدمى، ولأنه ترك كل دُماه وأدواته في منزله بمدينة غزة؛ منها 80 دمية صنعهم بشكل محترف و20 أخرى صنعها في نطاق التجارب، فبدأ يصنع دمى جديدة.
وعن تلك الدمى التي بقيت في منزله بمدينة غزة، يقول كريرة: "لا أدري ماذا حلّ بهم وبمعملي الذي يحوي أدواتٍ كثيرة، هل استشهدت دماي كما أقاربي؟، لا أعلم عنها شيئًا منذ نزحت، وتكرر نزوحي أكثر من تسع مرات".
ويضيف لـ"الترا فلسطين": "لقد كان القصف حولي، وفي داخلي نارًا أخرى من القلق، لذلك شعرت أنني أريد أن أصنع الدمى بشدة من جديد، رغم أنني لم أكن يومًا فنانًا أو نحاتًا، وهنا لاحظت حولي أكوامًا من المعلبات الفارغة، بل فيضان منها، لذلك بدأت المحاولة ووسط سخرية كثيرين شجعتني زوجتي سحر كما عادتها، حتى صنعنا أول دمية من صحن حديد وعلبة صلصة فارغة، وأطلقت عليها ابنتي اسم حربي نسبة للحرب، ثم صنعت دمية الحكواتي، ثم دمية طفل وثم دمية أم وهكذا..".
تخلّص كريرة من كل المشاعر السلبية عبر الدمى، بل نقل العدوى إلى آخرين، فكثير من الجيران انضموا إليه، وإلى بناته وزوجته، يريدون مساعدتهم على صناعتها، حتى الأطفال الذي شاهدوا العروض حاولوا بدورهم ذلك بواسطة العلب الفارغة، وهنا قررت مؤسسة القطان دعمه كي يعطي الأطفال النازحين تدريبًا في صناعة الدمى، فقد نجح في أن يخلق حالة، ويساعد كثيرين حوله ليبدعوا، وفي الوقت نفسه يتخلصون من الخوف.
ولم تكن فقط المعلبات هي العنصر الوحيد في عملية إعادة التدوير لصناعة الدمى، بل كل ما تقع عليه يداه من "كلكل" وأخشاب وحديد وأي نوع من الأنسجة، بل أيّ شيء ممكن إضافته إلى الدمى ويمنحها حيوية، ومن الممكن أن تحرّك فكها مرة، أو تمشي مرة، واحتاج هذا 11 شهرًا من الحرب كي ينجح وتصبح الدمى شخصياتٍ قادرة على تقديم العروض.
شغف النازحين والعالم بالدمى
لقد استخدم كريرة كل ما تقع عليه يداه والنتيجة مبهرة، وبدأت كاميرات القنوات الإخبارية تصوره، بل انبهر العالم بالدمى المتحركة وجمالها، ما دفع فنان عالمي لتكون لوحته الشهيرة عن الإبادة في غزة عبارة عن شخصيتين من دمى كريرة المتحركة، وهي الآن تلف معارض أوروبا المفتوحة قبل أن تستقر في باريس لأربع سنوات قادمة، إضافة إلى مشاركة الدمى في فيلم ضمن مشروع أفلام "من المسافة صفر" للمخرج رشيد مشهراوي.
وكل هذا لم يمنعه من أن يستمر في التنقل بين الخيام لمزيد من العروض، لا همّ له سوى أن يخفف عن الأطفال وعائلاتهم، وكما يقول لـ"الترا فلسطين" إنه لم يتوقع كل تلك الفرحة والضحك والابتسامات وسط القنابل والصواريخ، فقد نالت الدمى الحب والقبول، ليركض إليها الكبار والصغار بعد العرض واحتضانها، إحدى النساء من الخيام سمعها كريرة تقول بصوت عالي "والله إحنا شعب مبدع، خسارة في الموت". وتظهر أحيانًا أحزان غير متوقعة إلى جانب الحزن الأكبر وهي الإبادة المستمرة، فيشرح كريرة عن ذلك بقوله إنه حين يخرج للبحث أو شراء قطع إكسسوارات يضيفها إلى الدمى، لتضفي عليها الحياة، يجد خلف تلك القطع دائمًا قصة ما؛ فمرة اشترى عشرات الأحذية الصغيرة التي لم تكن مكتملة، فكل فردة لا تشبه الأخرى، وجميعها من منازل قصفت ونزح أو قتل أصحابها.
ويضيف عن التسوق في الخراب "وجدت ذات مرة طفلًا يبيع قميصه المدرسيّ لأنه لم يعد هناك مدارس، كما وجدت كوافيرة وفرت لي مجموعة من البواريك الطبيعية من سيدات يحلقن شعرهن كي لا يمتلأ بالحشرات".
إن رحلة البحث عن بقايا الأشياء جعلته دائمًا يفكر بالحيوات وراءها، إنه شيء يشبه دمية تحكي المآسي ومصنوعة من المآسي معًا، إلّا أنّ ذلك كله لم يجعله يتوقف عن حلمه، بل يتخيله كل يوم أن يمتلك سيارة مسرح متنقل للدمى وتكون في الوقت نفسه مركز فني لورشات الكتابة وتحريك الدمى وصناعتها بصحبة الأطفال، ويتنقل المسرح في كل مكان يصل إليه سواء خلال الحرب أو بعدها.
تكرار التجربة مع مبدع آخر
وليس بعيدًا عن مكان كريرة حيث يصنع دماه، ينحت الشاب يوسف الهندي الماريونيت لكن الصغيرة ويعرضها على مسرح العرائس المعلّق بشكله الكلاسيكي المعروف.
ولم يستطع الهندي توفير الأخشاب المخصصة لتلك العرائس، كما لم يستخدم المعلبات، لكنه نجح في صناعتها من عجين الورق، فهو يخرج كل يوم للبحث عن شتى أنواع الكراتين والأوراق ويجد صعوبة في ذلك، فهناك الآلاف غيره يبحثون عنها لإشعال النار والطبخ، وحين يجدها يطحنها ويعجنها لتصبح متماسكة لكن ليس بقوام الصلصال اللين، بل تبقى شديدة ما يجعل نحتها صعبًا -على حد وصفه-.
ويقول الهندي لـ "الترا فلسطين": "بعد عدد من التجارب والفشل استخدمت خلالها كل شيء حتى الشاش الطبي الذي ربطت به إصابتي من القصف، نحت أخيرًا الدمى من عجين الورق، وقدمت عددًا من العروض بمساعدة الأصدقاء والعائلة في كثير من مخيمات النازحين، وكانت سلسلة العروض بدعم من مؤسسة القطان".
ويوسف كان ينحت التذكارات الخشبية قبل أن يبدأ منذ عام 2017 رحلته مع الدمى، إذ بدأ يصنع الدمى ذات الفم الكبير ثم اتجه إلى دمى الماريونيت، وقبل الحرب بشهر أسّس أول فرقة له مسرح المخيم من الدمى ومحركيها، وأعاد تكوين الشخصيات من جديد في الحرب بخامة مختلفة كليًا عن الأخشاب.
ويضيف الهندي: "لقد كنت في كل نزوح أنقل معي جميع الأغراض والعرائس، ففي نزوحي إلى رفح صنعت الدمى، وفي نزوحي إلى وسط قطاع غزة بدأت العروض حتى هذه اللحظة"، موضحًا أنه في كل مرة يبحث عن الأمان والإبداع معًا. ولأن الهندي بالأساس أخصائي نفسي واجتماعي، فقد استخدم جميع العروض لعلاج الصدمات النفسية بشكلٍ أولي، والتخفيف عن الأطفال بالتسلية ونقل حكايات النزوح اليومية وتفاصيل الحياة في الخيام.
ويكفي رؤية مقاطع الفيديو على صفحة يوسف الهندي لتعرف مدى سعادته وسعادة الأطفال في هذه التجربة الحية، والمليئة بالألوان والدهشة، بدءًا بالملامح الدقيقة للدمى وملابسها وشعرها، وانتهاء بإبداع النص وتوعيته للأطفال وعائلاتهم، وكل ذلك تحيطه أصوات الضحكات والغناء.