ما زالت تذكر تلك الليلة جيدًا. كان عمر زينب الرواغ (12 عامًا) عندما اقتربت مرةً من باب خيمة إحدى الغجريات خلال موسم "النبي روبين" لعام 1945، رفعت طرفه واسترقت النظر: في الصدر كانت تجلس الغجرية وقد استلمت للتوّ وجه صبيةٍ (14 عامًا) عرسها الشهر المقبل. بالقرب منها تجلس أمها التي كان وجهها يضجّ بالنقوش الخضراء، نقاطٌ تحت الذقن، وثلاث أخريات في وسط الجبين، وهلال صغير على الخد.
قالت أم العروس بلهجةِ أهل القرى: "دقيلها سمكة - وهو وشم كانت تنقشه الغجريات إلى يمين الجبين كفأل حسن للعرائس لتجنب العقم - وتحت شفتها دقّيلها درب نملة - أي خط رفيع كطريق النمل يحدد الشفة فيبرز جمالها - أعطت للغجرية "قرشين" وطلبت منها تبدأ. (كان الجنية الفلسطيني الذي أُصدر عام 1927؛ وقتها يساوي 100 قرش).
"سمكة"، و"درب النملة"، كانا وشمين لنساء فلسطين قبل النكبة، والوشم من أدوات التجمّل
بدأت الغجرية تنقر وجه الفتاة بمجموعةٍ من الإبر، وتغني على مسامعها كلما همّت بالصراخ ألمـًا "الوجع حزّة حزّة، والغوى ديمة ديمة"، بمعنى أنك ستتألمين لفترةٍ قصيرة لكن جمالك وغواكِ بعد هذا الوشم سيبقى إلى الأبد.
ابتسمت زينب بعد أن داعبت آذانها كلمات الأغنية، فأخذت نفسًا عميقًا ودخلت الخيمة، مدّت ناحية الغجرية قرشًا واحدًا كانت أمها أعطتها إياه لتركب الأرجوحة، فإذا بالغجرية ترفض. ولولا تدخل امرأة أخرى بالقول: "حرام يتيمة، دقّيلها بقرش" لما تمكنت زينب من أن تشرح لنا اليوم وبعد مرور أكثر من 73 عامًا خوضها تلك التجربة المثيرة.
الغوى ديمة ديمة!
تقول: "ضمّت الغجرية سبع إبر بخيطٍ واحد بعد أن رسَمَتْ على وجهي بواسطة الفحم شرّاحات - وهما خطان قصيران عند جانبي الشفتين يوحيان بأن الفتاة تبتسم على الدوام - وثلاث نقاط عند الجبين وخطـًا أسفل الذقن، ثم بدأت تغرز الإبر المضمومة وتمشي بها فوق الرسم بدقة، وتمسح بمنديلها ما يسيل من دم".
تصرخ زينب، بينما الغجرية تضحك وتُغني "الوجع حزّة حزّة والغوى ديمة ديمة"، حتى انتهت من الوخز، فأخرجت من منديلٍ محكم الإغلاق عشبة يطلق عليها البدو اسم "عنيبة الذيب"، وهي ذات أوراق خضراء طرية، عصرتها فوق رسم الإبر فتغلغل لونها الأخضر إلى داخل الجلد تاركـًا العلامة المطلوبة.
كان الوشم جزءًا أصيلاً من مفهوم البدويات والقرويات الفلسطينيات قبل النكبة عن "المكياج". ولكن كيف تتخيلون شكل أحمر الخدود، والكحل، وأحمر الشفاه، الذي كُنَّ يستخدمنه في تلك الفترة؟ ما ستقرأونه هنا، سيجعلكم تبتسمون، سيما لو عرفتم أن مكياج بنات يافا - مثلاً - قبل النكبة تجاوزهن بمراحل حين كُنّ لا يشترين من قطع المكياج إلا ماركة الـ "ماكس فاكتور"، تحديدًا خلال الاحتلال البريطاني، وما نتج عنه من تغيير في طبيعة لباس المرأة وانفتاحها هناك بعد سقوط الدولة العثمانية.
"حلوين من جوة"
من أين كنتم تشترون أقلام الكحل يا جدة؟ ضحكت زينب التي تتجاوز الـ85 عامًا اليوم، وقالت: "أي أقلام الله يهديكي؟ كنا نصنع كحل الزيت، ولا تضعه عندنا إلا العروس، أو قد تستخدمه الفتاة العادية للتطبيب إذا أصابتها حساسية في عينيها".
الكحل - قبل النكبة - كان خاصًا بالعروس، أو للتطبيب، وكان يُصنع يدويًا
وتضيف، "كنا نحضر علبة معدنية (علبة تونة قديمة، أو علبة صلصة بندورة) نضغطها من الجانبين حتى تصبح أقرب إلى الإغلاق، نصب بداخلها زيت الزيتون، ثم نحضر طرف ثوب أو قماشة، أو يمكن جلب القطن الطبيعي، ثم فتله باليد حتى يصبح شكله أقرب إلى فتيل الشمعة، نغمسه بالزيت ونترك طرفه ظاهرًا، ثم نشعله، ونغطيه بفخارة بطريقة مُعيَّنة، ثم نضع فوق الفخارة قماشة سوداء ونتركه طوال الليل". عند الصباح يتجمع "الشحّار" في بطن الفخارة، ويتحول إلى كتلة سميكة، يُنحت عنها ثم يُخلط بقطرات من زيت السمسم، ثم يُوضع في مكحلة نحاسية كُنّ يشترينها من السوق بمبلغٍ زهيد.
ماذا تتخيلون أن أحمر خدود البدويات قبل النكبة كان؟ حسب زينب، كانت شجرة الحلّيوي تحمل أزهارًا حمراء، لو جفّت وفُركت أصدرت غبارًا أحمر تضعه النسوة على وجوههن تجمّلاً، وبالطبع هذا كله تحت البرقع.
ما يمكن أن يدهشك أن بدويات روبين، كُنَّ يشترين من السوق السنوي الكبير في قريتهن، صابون "كامي" (CAMAY) المعروف حاليًا؛ - لكنه وفق زينب لا يضاهي برائحته رائحة صابون ما قبل النكبة - حيث كانت النسوة تستخدم ورقته لتعطير ملابسهن، بالإضافة إلى العطور الطبيعية التي كُنّ يقطّرنها من أوراق النعناع والعطرة والريحان، فيغسلن بها شعرهنّ ويمسحن بها الجسد.
وللشفاه لم تكن تستخدم السيدة السمراء - هي وكل النسوة هناك - إلا زيت الزيتون للترطيب ومنع التقشّف، ويمكن خلطه للعروس بغبار أوراق "الحلّيوي" فتعطي لونًا رقيقًا ولطيفًا.
ولم تكن البدوية في روبين تسمح لشعرها بأن يشيب قبل أن تغمسه بالحناء. "كان حناؤنا بلونٍ واحد، أحمر جميل، نضعه على شعرنا وأكفنا وباطن أقدامنا، ولكم أن تتخيلوا الراحة بعدها".
وتضيف، "على الرغم من أننا لم نعرف المكياج الذي تضعه نسوة اليوم على وجوههن، لكن كنا جميلات جدًا في نظر أنفسنا". استدركت وهي تبتسم، "كنا حلوات بضحكاتنا وببساطتنا وبرضانا، لكن الحين: الحلو من برة ممكن يكون بشع كثير من جوة" أشارت ناحية صدرها وسكتت.
زيت الزيتون والقرنفل
ابنة بلدة حمامة، إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة، نفيسة انشاصي (82 عامًا)، تستخدم نفس أسلوب الحاجة زينب في صنع الكحل، والفارق فقط أن طريقتهم في حمامة تزيد على الخطوات شيئًا، هو وضع حجر الكحل الذي ينتج عن هباب الفتيل، في ليمونة، ثم وضع الليمونة في عجينة، ثم وضع العجينة في الفرن حتى تحترق، بعدها تخرج الليمونة بما فيها وتطحن ثم توضع في مكحلة النحاس.
لم نستطع التعرف على شجرة الحلّيوي التي تحدثت عنها ابنة روبين؛ رغم أنها مشهورة جدًا عند البدو هناك، لكننا بلا شك عرفنا زهر الحنون الذي أخبرتنا الحاجة نفسية بأن نساء حمامة استخدمنه في تجميل خدودهن، بالذات وقت الأفراح.
"الدقة" أو الوشم أيضًا كان من علامات التجمل هناك، تقول الحاجة نفسية: "كان من الصعب أن نرى امرأة في حمامة حسب ما أذكر لا تضع الوشم (..) كانت الصبية التي تضع لها الغجرية الدقة تغتر بجمالها وتختال أمام الباقيات".
تعطرت النساء قبل النكبة بتقطير الأزهار ذات الرائحة الفواحة، والأعشاب العطرية، أما الملاكون فيشترون العطر لنسائهم من يافا
ولم يُبع العطر في حمامة يومًا للنساء، فالعاديات منهن كن يعتمدن على تقطير الأزهار ذات الرائحة الفواحة، والأعشاب العطرية، مثل الجوري والنعناع والعطرة والريحان، بينما التجار وأصحاب الأراضي الكثيرة (الملاكين) كانوا يشترون العطر الجاهز في زجاجات لنسائهم من يافا.
بالطبع، كانت العادات والتقاليد تمنع المرأة هناك من الخروج بأيٍ من أنواع الزينة مهما بلغت مكانتها، وحتى غبار زهر الحنون للبيت فقط. ووفق الحاجة نفيسة فهي لم ترَ طوال حياتها في حمامة امرأةً تمشي في الطريق "متبرجة".
نساء حمامة قبل النكبة أيضًا كُنّ يستخدمن صابون "نابلس" لتعطير الثياب والجسم وقت الاستحمام، بينما كان زيت الزيتون أنسب علاج لكل مشاكل الشعر، "ننقعه ساعتين بالزيت ونغسله، يصير متل خيوط الحرير، لا تقصيف ولا فوعة ولا شي" قالت نفيسة.
تستخدم الحاجة نفيسة حتى اليوم "مسامير القرنفل" في قماش رقيق يشبه شاش الجروح، تلفه في لفافات وتوزعه بين قطع الملابس، سيما "أثواب حمامة التي ورثتها عن جدتها". تقول: "رائحة خزانتي فواحة دائمًا، هذا ناهيك عن أن القرنفل يطرد العثة والحشرات".
كحل "شادية"
الحاجة عربيه العف (85 عامًا) قلبت الآية رأسًا على عقب عندما تحدثت عن حياتها في حي النزهة بيافا قبل أن تنزح مع عائلتها إلى غزة، وأقسمت: "والله، إذا ما كان المكياج ماكس فاكتور ما كان ينحط على وجهي".
أسهمت العوامل الطبيعية في جعل ميناء يافا بوابة فلسطين الغربية من وإلى دول حوض البحر المتوسط وأوروبا وأفريقيا، وطريقًا سهلاً للتجارة والمواصلات، ومرتعًا لمشاريع الحداثة من مسارح، ودور عرض سينمائية مفتوحة، يحضرها كبار الممثلين والمطربين العرب - تحديدًا في موسم النبي روبين - وهذا ما ساهم في انتشار الأزياء المكشوفة، وأدوات التجميل، حيث كانت صور الإعلانات عن منتجات التجميل وأدوات التبرج تستهدف رواد تلك الصروح بشكل كبير.
تقول عربيه: "كانت البودرة البيضاء ماكس فاكتو"، والماسكاراه من نوع مابيلين (Mabelline)، بالإضافة إلى أحمر الشفاه الذي كانت له شعبية كبيرة بفضل رواج السينما هناك، وظهور الممثلات العربيات وهن يضعنه".
نساء يافا استخدمن قبل النكبة ماركات عالمية في المكياج والعطور، خلافًا لما كان يحدث في أغلب فلسطين
كانت الفنانة شادية هي النجمة المفضلة للحاجة عربيه، حتى أنها ولفترةٍ طويلة كانت تحاول تقليدها في وضع كحل العين على امتداد الجفن وأكثر، عبر خطٍ طويل مدبب يمتد بشكلٍ ملتوٍ ناحية طرف الحاجب.
وتضيف، "كنا نخرج بملابس قصيرة، وضيقة"، ثم تضحك وتعلق: "سامحنا الله على تلك الأيام. كانت الدكاكين والأسواق تملأ أحياء يافا، العطور الأوروبية كانت تصل إلينا أولاً بأول، فما كنا نتعب كثيرًا بتجهيز الخلطات وصناعة الكحل أو غيره. صحيحٌ أن ثمنها كان مرتفعًا، لكن معظم بنات يافا كن في تلك الفترة مثلي".
أثناء الحكم العثماني - أي ما قبل عام 1917 - كانت نساء يافا يرتدين على الأغلب ثوبًا خاصًا بأهل المدينة وشاشة بيضاء، أو برقعًا مكونًا من ثلاث طبقات - شبيهًا بأزياء النساء في مسلسلات البيئة الشامية السورية - لا تظهر منه إلا عيني المرأة، وعليهما أيضًا طبقة شفافة.
مكاحل العظم بغزة
المؤرخ والباحث الفلسطيني سليم المبيض، أكد أن الكنعانيات كان لديهن اهتمام منقطع النظير بالجمال ووسائل التجمُّل، حيث وردت في تاريخ الكنعانيين قصص تؤكد بحث نسائهم في عسقلان ويافا عن الفخار القديم المحطّم الذي مرّت عليه عوامل التعرية على مدار السنين، ثم يطحنّه ناعمًا جدًا، ويخلطنه ببعض زيت الزيتون، ليصبح بمثابة أحمر خدود طبيعي.
ويقول: "في عام 1931، حضر لفلسطين باحث تاريخ بريطاني، يدعى فليندرز فيتري، فوجد أدوات للزينة مدفونة مع آثار في منطقة تل العجول جنوب غزة، وكانت مكاحل مصنوعة من عظام الحيوانات مكسّرة بطريقة تجعل من العظمة مدببة لترسم حول العينين خطوطًا رفيعة، مرفقة بقطع خشبية هي بمثابة حامل لزجاجة الكحل المصنوع غالبًا من الزيت".
وأشار إلى أن نساء ما قبل النكبة "البدويات والقرويات" كنّ بعيدات جدًا عن الانفتاح الذي كانت تعيشه بنات المدن الكبرى كيافا وحيفا والقدس، فلا يعرفن عن أدوات الزينة إلا المتناقل بينهن، إذ كانت العادات والتقاليد تمنعهن من المشي أمام العامة حتى لو بالكحل، بينما مهامهن في الحقول وأثناء رعي الغنم لم تكن تبقي لديهن أوقاتًا لمثل هذه الأمور، وذلك على عكس ابنة المدينة، التي دخلت المدارس، واختلطت بالعالم وعرفت المسارح ودور السينما، فكان وجود الزينة في حياتها طبيعيًا جدًا.
اقرأ/ي أيضًا: