سقط الحب على مداخل البلاد الأسيرة، ونحن على أبوابها نسجد متوضئين بترابها؛ علّ حجرًا صغيرًا يُعيد لنا حفنة رملٍ من رمالها. تلك الكلمات رسمها الفنان بلال خالد (26 عامًا) على لوحة فنية مُخلّدًا فيها صورة الطفل الشهيد محمد أيوب، بعدما قضى برصاص قناصة الاحتلال في الجمعة الرابعة من مسيرات العودة.
"إنها أكثر الأعمال التي أحببتها وأوجعتني لتأثري الشديد بها، فالطفل كان يرتدي ملابس جميلة يبدو أنه اختارها بعناية، وقد رسم على بنطاله قلبًا وحوله حرفين إنجليزيين اختصرا قصة حب لم يفصح بها. جلس يشاهد من بعيد الأحداث دون أن يفعل شيئًا، حتى أنه لم يرمي الحجارة؛ لكن رصاصة إسرائيلية أنهت حياته في مشهد آلمني جدًا، ودعاني لتخليد صورته بلوحة فنية" قال بلال في حديث لـ الترا فلسطين.
وعلى الرغم من أن الفنان بلال خالد يُقيم في تركيا منذ فترة وجيزة، إلا أنه يحاول بكل ما أوتي من حب بأن يشارك في مسيرات العودة، إن لم يستطع بكاميرته كما فعل في الحروب الثلاثة التي مرت على قطاع غزة، فبريشته الفنية المبدعة.
بلال خالد يُحول صور الأحداث في مسيرات العودة إلى لوحات فنية بــ"الكاليجرافي" عن الشهداء والمتظاهرين
ومنذ أن انطلقت مسيرات العودة في يوم الأرض الفلسطيني، بتاريخ 30 آذار/مارس، حرّك بلال خالد ريشته: "أكثر دافع يجعلني أترك إنتاج كل الأعمال الفنية جانبًا وأصبّ اهتمامي على توثيق مشاهد لافتة من المسيرات أنني خارج البلاد الآن ولا أستطيع تقديم شيء لوطني إلا محاولة نصرة القضية من خلال الفن".
اقرأ/ي أيضًا: صور | الفن رديفًا لمسيرات العودة
ومما لا شك فيه أن الفن سلاح؛ وقد يكون مُدويًا في بعض الأحيان، يواجه به الفنان محتل بلاده. وأول ما رسم بلال لمسيرات العودة في ثاني أيامها؛ لوحة جسدّ فيها خريطة فلسطين وشمس الحرية تبزغ ساطعةً فيها، وكتب في وصفها على صفحته عبر فيسبوك:
توالت لوحات بلال وحبرها من ماء قلبه، فتلك لوحة للصحافي الشهيد ياسر مرتجى، الذي ارتقى أثناء تغطيته لأحداث المسيرات شرق مدينة غزة، وقد جمعت بلال صداقة طيبة مع ياسر. يقول مُعلقًا على اللوحة التي رسمها لصاحبه مرتديًا سترة الصحافة، "أكثر من مرة يسألني ياسر متى سترسم لي لوحة جميلة من يديك، ولكن لم أتوقع أن يأتي اليوم الذي أهديه الصورة دون أن أسمع رأيه بها".
وبلال خالد يُحاول في الغربة أن لا ينقطع عن المتابعة الإخبارية للأحداث الجارية في مسقط رأسه غزة، "عندما أتابع الأخبار لا أنفك عن البحث الدقيق للقصص المؤثرة التي تُلامس مشاعر الناس في الخارج، وهناك أيضًا صور يراها البعض بشكلٍ عام لكن قد يكون هناك جزئية لم ينتبهوا لها، أحاول إيجادها، وأيضًا بعض صور تمر مرور الكِرام؛ وعندما أوثقها بالرسم مُركِزًا على المشاعر، والوجوه، والأشياء الغريبة الحاصلة فيها تُصبح أكثر أهمية للمشاهد".
ومن الصور التي تحولت لأيقونة كما وصفها متابعون، صورة الشابة تغريد أشرف وهي تشارك في رمي الحجارة بمسيرات العودة، وقد وثقها بلال بريشة فنّه الخطي؛ ليثبت مشاركة المرأة الفلسطينية في مسيرات العودة.
كانت سعادة بلال غامرة عندما أهداه بعض الأصدقاء صورة الطفل محمد عياش وهو يحمل اللوحة التي رسمها له الفنان بلال خالد تكريمًا لبطولته وابتكاره الإبداعي، عندما كان الأول يرتدي كمامة بداخلها بصلة، يحمي بها نفسه من الغاز المسيل للدموع في إحدى ساحات المسيرات، وقد التقطها له المصور محمد جاد الله ولاقت صدى واسعًا داخل فلسطين وخارجها.
ويسمى الفن الذي يجيده بلال خالد "فن الرسم بالخط"، أو "فن الكاليجرافي"، وهو كما يشرحه "فن تحوير الخطوط العربية التقليدية إلى نمط خاص. فأنا أدمج الزخارف الهندسية مع انحناءات الحروف العربية ومتانتها، تأكيدًا على عراقة اللغة العربية وتذكيرًا بالخط العربي الأصيل بعدما غزت التكنولوجيا العالم".
وكان السرّ الذي قاد بلال إلى فن الرسم بالخط، هوايته لفن الرسم على الجدران أو ما يُسمى بـ "الجرافيتي". ومن أكثر الأعمال التي وقعت في قلبه - كما يقول - لوحة "طفولة محاصرة" التي شارك في رسمها على برج الظافر في غزة، وتُعد أكبر لوحة فن جرافيتي في فلسطين. "أصبحت تلك اللوحة أيقونة محفوظة لكل العالم" قال بلال.
وكان بلال وثّق بكاميرته لوكالة الأناضول التركية أحداث العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في عامي 2012، و2014، وهو يعتقد أن أهم الصور التي التقطها كانت لناجين من عدوان 2014، وثّق بها أشخاصًا نجوا من تحت الأنقاض، أهمهم الشاب أحمد سلامة الذي كان يخرج من تحت الردم ويرتدي كمامة، وقد انتشرت هذه الصورة بقوة على الصحف والمواقع العالمية.
وخلال عامين بعد عدوان 2014، وثّق بلال لـ"الجزيرة بلس" كيف أصبحت حياة الأشخاص الذين كان قد وثّق نجاتهم أثناء العدوان. يقول: "عملت موضوعًا يروي قصص حياة من الموت ويبين الفرق من 2014 لغاية 2016 في حياتهم. فعندما يرى المشاهد الصور الأولى يتوقع أن أولئك الناس لم يبقوا على قيد الحياة، ولكن أنا أكملت المربع الناقص وأوضحت أن بعضهم أكملوا حياتهم بشكل طبيعي، وبعضهم ما زال متأثرًا سواء نفسيًا أو جسديًا بنتائج الحرب".
ولا يزال الفنان بلال خالد يروي من اسطنبول بريشته تضحيات بلاده فلسطين، معتزًا بمسقط رأسه في خان يونس جنوب قطاع غزة، التي احتضنت فنّه وحفظت ضوء كاميرته طويلاً، آملاً بعودة قريبة إلى أرض أجداده في قرية كرتيا.
اقرأ/ي أيضًا:
صور | الكاريكاتير يحاول فرديًا مواكبة مسيرات العودة