من بين لوحات كثيرة للفنانة التشكيلية الفلسطينية إلهام الأسطل، تبرز لوحة أطلقت عليها "كارثة ومعاناة"، حرصت أن تتضمن صورًا عدة ومتنوعة تعكس مأساة الغزيين على مدار الشهور الماضية من حرب الإبادة الجماعية التي تشنها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.
كان لهذه الفنانة العشرينية نصيب من مآسي الحرب، ففيها فقدت والدها، وتعتبره "شهيدًا" للحصار الإسرائيلي وشحّ الأدوية، ونزحت مرارًا، وخسرت أدواتها وألوانها ولوحاتها في مرسمها الخاص الذي تعرّض للقصف والتدمير إبان الاجتياح الإسرائيلي البريّ لمدينة خانيونس في جنوب القطاع.
تستعين إلهام الأسطل بأدوات بديلة، للاستمرار في نقل معاناة النازحين على لوحاتها الزيتية، فتستخدم زيت الطبخ بديلا لزيت الكتان مع ما تبقى لديها من ألوان
هذه "حرب مجنونة" بحسب وصف إلهام لـ "الترا فلسطين"، وتقول: "أنا كفنانة أجد فيها الكثير من الصور التي ينبغي أن نرصدها ونوثقها بالقلم والكاميرا والريشة والألوان، ونظهر للعالم حجم الجريمة التي ترتكبها إسرائيل بحق نحو مليوني إنساني من المدنيين جُلّهم من النساء والأطفال في هذا الشريط الساحليّ الصغير".
كارثة ومعاناة
في هذه اللوحة التي أطلقت عليها إلهام اسم "كارثة ومعاناة" جسدت صورًا مختلفة ومتنوعة من معاناة سكان غزة، وصنوفًا من الجرائم التي ترتكبها قوات الاحتلال بحقهم، وكان لافتًا تأثّرها بالحكاية المؤلمة للأسير المحرر بدر دحلان، والهيئة التي ظهر عليها مصدومًا عندما أطلقته قوات الاحتلال بعد شهور من الاعتقال والتعذيب، تنبعث من عينيه نظرات حادة وكأنه غريب عن هذا العالم الظالم، وقد أثرت هذه النظرات في إلهام، وعنها تقول: "نظراته وكأنها إدانة للعالم كله، وحاولت إبرازها بشكل كبير. كانت النظرة تصدر منه كأنها سهم من نار وغضب تحكي عمّا حدث له في السجن من تعذيب، أفقده عقله والقدرة على النطق".
وفي جانب من هذه اللوحة خصصته إلهام لامرأة عجوز أطلقت عليها قوات الاحتلال كلبًا بوليسيًا شرسًا، مزق جسدها بطريقة وحشيّة، وهذا المشهد تكرر كثيرًا خلال الحرب المستعرة منذ تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، سواء بحق فلسطينيين داخل منازلهم، أو في الشوارع خلال محاولتهم الفرار من الموت والنزوح بعيدًا عن منازلهم، أو بحق أسرى فلسطينيين داخل سجون الاحتلال.
ولم تنس إلهام المقدسات الدينية والوطنية من مساجد وكنائس، وكان لها مساحة في لوحة "كارثة ومعاناة" وأظهرت فيها سياسة الاعتداءات والانتهاكات الممنهجة التي ترتكبها دولة الاحتلال ضد هذه المقدسات.
وأبرزت هذه الفنانة الشابة جوانب أخرى من مأساة الغزيين لتشكل هذه اللوحة تلخيصًا مكثفًا لما يتعرّض له أهالي قطاع غزة على مدار الشهور الماضية منذ اندلاع الحرب، وتقول إلهام إنها لجأت لهذه الطريقة من الرسم المكثف بتفاصيل كثيرة في لوحة واحدة؛ بسبب "معاناة النزوح وشح أدوات الرسم" وكي تبقى حية لسنوات وعقود وتكون شاهدًا على مقدار الظلم وسط صمت العالم.
مرسم مدمر
"كفنانة تشكيلية في غزة أعاني من عدم توفر الأدوات الفنية كالأقلام والألوان والأوراق، وكل شيء تقريبًا غير متوفر بسبب إغلاق المعابر"، وتكمل إلهام أنها ترسم من العدم بعد تدمير مرسمها بكل محتوياته جرّاء استهدافه بالقصف والتدمير من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال العملية البريّة في مدينة خانيونس في الفترة ما بين مطلع كانون الأول\ديسمبر وحتى مطلع نيسان/أبريل الماضيين.
وجرّاء ذلك تستعين هذه الفنانة التشكيلية الشابة بأدوات بديلة، للاستمرار في نقل معاناة النازحين على لوحاتها الزيتية، فتستخدم زيت الطبخ بديلا لزيت الكتان مع ما تبقى لديها من ألوان، وبإصرار كبير تقول إلهام: "أحاول استخدام البدائل قدر المستطاع، وأصنع الورق بنفسي، ولن أتوقف عن تجسيد آلام شعبي ومعاناته بفعل هذه الحرب المجنونة".
قبل اندلاع هذه الحرب كانت أغلب لوحات إلهام تركز على القضية الفلسطينية كالحق في الحرية وإقامة الدولة المستقلة والتحرر من الاحتلال، ومكانة فلسطين الدينية ومركزها مدينة القدس والمسجد الأقصى، وبما تحتويه من مقدسات أخرى إسلامية ومسيحية، ولكن بعد اندلاع الحرب، تقول إن "رسوماتها تركز على معاناة زهاء مليوني نازح يشكلون نحو 90% من تعداد الغزيين وما يواجهونه من ويلات وجرائم القتل اليومية، والتدمير الممنهج لكل مظاهر ومقومات الحياة في قطاع غزة".
ووثقت إلهام بالرسم تجربتها الشخصية مع النزوح من بيتها الكبير وحديقته الجميلة -بحسب وصفها- وقد أصبحا أثرًا جرّاء التدمير الإسرائيلي، والإقامة في خيمة وما واجهته من معاناة مع الأمطار والبرد خلال فصل الشتاء الماضي، وفي فصل الصيف تحولت هذه الخيمة كما تقول إلهام إلى "فرن يغلي من شدة الحرارة" إضافة إلى تفشي الحشرات والأمراض، وتكمل: "يحلّ علينا فصل الشتاء الثاني، ولا زلنا نعيش فصول المعاناة والموت والتشرد".
وفي اللوحة ذاتها صورت حكاية هروبها من القصف الأول بملابس بيتية، وتقول: "كانت الغارة قريبة جدًا من منزلنا، وتم تحذيرنا قبلها بخمس دقائق، وهربنا بلباس البيت، وحملت معي عصفوري مؤيد، ولكنني أطلقته ليشق طريقه ويجد طريقة أفضل للعيش، وركزت جهدي مع أطفال أخي هربًا من حمم الصواريخ والقذائف".
وفي لوحة أخرى جسدت إلهام مدينتها خانيونس التي تركتها خلفها، نازحة إلى مدينة رفح، وتعكس هذه اللوحة حالة الشرود والتشتت التي كانت تسيطر عليها، وهي هاربة على غير هدى ولا تعلم إلى أين تتجه، وهو شعور لا يزال يتشاطره ويشعر به سكان كل منطقة تباغتهم قوات الاحتلال بانذارات الاخلاء والنزوح.
القبلة الأخيرة
كان أثر الحرب على إلهام شديدًا في أيامها وأسابيعها الأولى، وتأثرت بمشاهد كثيرة غير معتادة وقاسية، ومن اللوحات التي رسمتها في تلك الفترة تبرز الأم التي فقدت ابنها، والجد الذي قتلت نيران الاحتلال حفيدته أمام عينيه، علاوة على صور الدمار المنتشرة في كل الأرجاء، وقد طاول المنازل السكنية والمباني العامة والآثار والمساجد والكنائس والبنية التحتية، وبهذا الكمّ الهائل من الدمار حولت قوات الاحتلال القطاع إلى "خرابة كبيرة".
ووسط هذا الواقع المأساوي المؤلم، أظهرت إلهام في لوحات فنية تكاتف الجيران ومساعدتهم لبعضهم البعض، وقد فتحوا بيوتهم أمام النازحين من الأقارب والأصدقاء.
وعن اللوحة الأكثر تأثيرًا فيها ولن تمحوها السنين من ذاكرتها تتحدث إلهام بألم كبير عن "القبلة الأخيرة"، وتقول: "تعرّض أبي لوعكة صحية شديدة، ومات بسبب شح الأدوية، ودفن غريبًا بعيدًا عن مدينته نازحاً في مدينة رفح"، وصورت هذه الفنانة قبلة أخيرة من أمها على جبين والدها في لحظة الوداع الحزينة، وجسدتها في لوحة فنية أطلقت عليها "القبلة الأخيرة"، وتقول إن هذه اللوحة وبكل تفاصيلها وظروفها ستبقى خالدة في ذاكرتها إلى الأبد.