كان يحدّثها كيف اكتشف -مع الممارسة- أن لكل "شيءٍ" في هذه الدنيا نقطة ارتكازٍ تتيح له الصمود فوق أي كتلةٍ ولو كانت أقل حجمًا وقوة. سكتَ قليلًا واستدرك: "إلا الأجسام المدوّرة.. الكرة مثلًا".
عرضت عليه مقطع فيديو لرجل تمكّن من إيقاف ثلاث بيضات فوق بعضهن البعض، فقال لها: إذن.. انتظري مني فيديو لأربع بيضات
الصحفية البريطانية التي كانت تُجري معه اللقاء أشارت بيدها إلى المصوِّر كي يوقف التصوير، ثم أخرجت هاتفها المحمول، وعرضت عليه مقطع فيديو لرجل تمكّن من إيقاف ثلاث بيضات فوق بعضهن البعض.
اقرأ/ي أيضًا: حليمة لدادوة.. هل سمعتم عن هذه البطلة؟
يقول محمد الشنباري: "انتفضتُ من مكاني، وقلتُ لها: إذن.. انتظري مني فيديو لأربع بيضات".
في الحقيقة، لم يكن محمد على يقينٍ بأنه سينجح، سألَ نفسه مرارًا خلال تلك المقابلة: "كيف لبيضةٍ أن تصمد فوق بيضة، وهي بالكاد تثبُت فوق سطحٍ منبسط؟!"، يضيف: "في ذلك اليوم بالتحديد، بدأت رحلتي الحقيقية مع فن التوازن". فليلَتها صدم الشاب جمهور متابعيه عبر موقع "إنستغرام" بمقطعٍ مصوّر، يوثّق به ما وعَد.
السابع والعشرون من آذار/ مارس، لعام 2018، تاريخٌ لا ينساه محمد. لقد بدأت حكايته مع "فن التوازن" آنذاك، يوم كاد الملل يقتله.
كنتُ أقلب مقاطع الفيديو عبر موقع "يوتيوب" -يقول- وتركتُها تتتابعُ تلقائيًا، حتى وصلتُ إلى مقطعٍ وجدتُ نفسي أُكرره أكثر من مرة!
يشرح: "كان رجلٌ يتكلم الإنجليزية، فلم أتمكن من فهم ما يقوله، وضَعَ عدة أكوابٍ فوق بعضها البعض بطريقةٍ مذهلة، لقد اعتمَد على حرف الكوب في تثبيت الكوب الآخر فوقه بطريقةٍ مائلة.. وهكذا حتى انتهى إلى برجٍ من الأكواب".
قضيتُ يومها في غرفتي أكثر من 6 ساعات، أصفُّ الأكواب فوق بعضها، منها ما يثبُت، ومنها ما كان يقع فيتحطم
ابتسم محمد يومها -لا إراديًا- ولم يجد نفسه إلا وهو في المطبخ، يقول: "قضيتُ يومها في غرفتي على ما أذكر أكثر من 6 ساعات، لا يعلم عني أحد شيئًا، أصفُّ الأكواب فوق بعضها، منها ما يثبُت، ومنها ما كان يقع فيتحطم.. وصوتُ أمي من بعيد ينادي: ماذا كسرتم؟ هكذا حتى صرختُ فجأة: فعلتُها".
بدأ محمد يستعرض أمام القريبين منه قدراته "المختلفة" تلك، وكان يلحظُ في العيون نظرات الدهشة الممزوجة بالاستهزاء في الوقت ذاته. أحدهم قال له: "شو هالهبل اللي بتعمله؟"، وغيره ضرب أخماسًا بأسداسٍ متهمًا إياه بـ"مخاواة الجن"، وثالثٌ عندما لم يستهزِئ به قال له قول "ناصح": "ما راح تستفيد إشي من اللي بتعمله، شوفلك شغلانة تاكل منها عيش أحسنلك".
في ذلك الوقت، لم يكن أحدٌ يشعر بالمقام الذي كان يصل إليه محمد "في عين نفسه"، وهو يمارس هوايته "قناعةً وحبًا". كان يقضي في غرفته ساعاتٍ طوال، وهو يحاول صناعة مشهدٍ جديدٍ من التوازن، يشعر بعظمته، وهو الذي يستخدم من الأدوات كل ما يقع تحت يديه: "كوب، بطارية ليد، أنبوبة غاز، مفتاح علب، تمثال لصقرٍ يملكه شقيقه، وحتى ريش الطيور"، يصوّره للذكرى، ويمضي.
هكذا حتى أُجري معه أول لقاء! فالإعلام يوجّه الرأي العام دائمًا -وفق رأي محمد- الذي رصَد اختلافًا كبيرًا في النظرة إلى "هوايته" عن ما كانت عليه قبل الانتشار الصحفي.
يُضيف محدّثًا الترا فلسطين: "بدأتُ أمشي في الشارع فيتهافت الفتية لالتقاط الصور معي، يقولون: هذا محمد ملك التوازن -هكذا يلقبونني- ثم يطلبون مني أن أوازن بعض الأشياء مثلاً داخل بقالية، فأذهب معهم وأنفذ عرضًا هناك. علبُ الفول والتونة، وكرات الشوكولاته، وزجاجات العصير".
"وقمة سعادتي تكمن في تلك الفرحة، والدهشة التي أراها في عيون الأطفال. بعضهم يصفّق، والآخر يسألني: كيف فعلتها؟ وثالثٌ ينادي ابن جيرانه عن بعدٍ كي يأتي ليتفرّج على ما قد يسميه عفويًا السحر" يكمل.
اقرأ/ي أيضًا: إبراهيم يُترجم الأغاني إلى لغة الإشارة
حتى بعض كبار السن، ممن اتهموه بمخاواة الجن بادئ الأمر، صاروا ينادونه ليوازن لهم بعض الأشياء فيؤنس جلستهم. يتابع: "في بعض الأحيان، أكون مشغولًا فأمازحهم بقولي: الجن لا يعمل في النهار، فيضحكون ويفهمون قصدي"، لكن ما صار يسعده أنه بات يسمعهم جهارًا يتحدثون عن حبهم واحترامهم لإصراره.
"التوازن" بمعنى الكلمة الحرفي، أعطى محمد - وهو مدرّب كمال الأجسام في أحد النوادي القريبة من بيته في بيت حانون- ميزةً قد لا تتوفر في كثيرين من أبناء جيله، وهي الصَّبر. فالساعات التي يُفردها لإنجاز مشهد توازن، بات يمكن أن يفرد أكثر منها بكثير لحل مشكلة، أو إبداء رد فعل على أي شيءٍ قد يحدث معه.
بالعودة إلى مقدمة هذه القصة، ذلك اللقاء أُجري مع محمد العام الماضي، وما لم يكن يعرفه وقتها، أن الفيديو الذي أطلعته عليه الصحفية البريطانية، كان لشابٍ يمني، يُدعى محمد عبد الحميد مقبل، ويبلغ من العمر (20 عامًا)، يتقن فن التوازن، وقد دخل موسوعة "غينيس" في أكبر عدد من البيض المتوازن فوق بعضه البعض، حين تمكّن من وضع ثلاث بيضاتٍ فوق بعضهم في مدينة "كوالالمبور" في ماليزيا.
يسأل محمد -الملقب بملك التوازن في قطاع غزة- وهو الذي تحدّى الصحفية بـ 4 بيضات، نفسه كل يوم: لماذا قد يكون هذا مصير المواهب في غزة؟ ويكمل: "أنا حتى لا أعرف كيف أصل لروابط المشاركة في برامج المواهب، ولا أعرف أحدًا في وزارةٍ، يمكن أن يسند ظهري".
مع بداياته قبل 4 سنوات، لم يتوقف الشنباري عند حد. لقد وصل من الخبرة -التي تمكّنه من المنافسة عالميًا- إلى حد موازنة الأشياء على أسطح متحركة! إطارٌ خشبي معلق في الهواء يحمل قنينةً زجاجيةً وتمثالًا فوقها من الخشب، أو قطعةً من الفلين، تطفو على سطح الماء، وتحمل فوقها أكوابًا زجاجية ترتكز بعضها مائلة، وبعضها مستقيمًا على حواف بعض. لقد بات ينفّذ عروضًا فوق البيوت المدمّرة ليُري العالم "كيف تصرُ غزة على الحياة رغم أنف الموت، وكيف يولد الإبداع من رحم الدمار" وفق قوله.
يؤمن محمد بمقولةٍ للمذيعة الأمريكية الشهيرة أوبرا وينفري، تدعو فيها للإيمان بالذات فتقول: "قل لمن لا يحبونك: نعم أنا ممتلئ بنفسي وكوبي يفيض، لا تسمح لأحد أن يهزم تقييمك لذاتك، أغلق أذنيك عنهم، افتح عينيك جيدًا والتفت إلى انتصاراتك"، "ففي كل انتصارٍ حياة" يتمتم.
اقرأ/ي أيضًا: