حين أسمع أو اقرأ عن فلسطيني دفن في المنفى، تصيبني قشعريرة خوفٍ وحسرة. في عام 2002، مات المفكر الفلسطيني إبراهيم أبو لغد، ودُفِنَ في مدينة أجداده يافا، كان مريحًا أن يكون الدفن هناك، أعتبر ذلك بمثابة (انتصار) صغير حزين، سبقه (انتصار) محمود درويش حين دفن في بلاده.
قبل أسابيع عادت عظام الفنان الفلسطيني المقدسي الشهير كمال بلاطة، بعد منفى قسريٍ طويلٍ، إلى القدس، إلى مقبرة صهيون الأرثوذكسية بالقرب من باب الخليل. تذكرت عظام ملهمي وعظيمي التي ما زالت تموت من البرد، هناك في مقبرةٍ مصريةٍ في مصر القديمة، منذ أكثر من نصف قرن، أريد أن أفعل كل شيء لهذا الرجل، أريد أن أقدم له خدمة، نعم بالإمكان تقديم خدمات للموتى، أريد لكل شخص في العالم أن يعرفه ويقرأ له، أن أحوّل حياته إلى مسرحية، أو رواية أو فلم.
ذكرى رحيله السادسة والستين كانت يوم الثالث عشر من شهر آب الجاري، لم أفعل شيئًا كعادتي في هذا اليوم، لم أكتب عنه، لم أعد إلى يومياته لألاقيه هناك في إحدى عقبات القدس، لنجلس ونتحدث
ذكرى رحيله السادسة والستين كانت يوم الثالث عشر من شهر آب الجاري، لم أفعل شيئًا كعادتي في هذا اليوم، لم أكتب عنه، لم أعد إلى يومياته لألاقيه هناك في إحدى عقبات القدس، لنجلس ونتحدث، لم أهاتف أصحابي عنه للمرة المليون: "يا جماعة اليوم ذكرى رحيل خليل"، أصحابي الذين أعطوني إنذارًا أخيرًا: "يا احنا يا السكاكيني يا زلمة". لم أفعل أي شيئ، فقط تمددت على الأرض وشعرت بوحدةٍ غريبة، وقلت لنفسي لقد هزمتني اللاجدوي، فلأنس ولأذهب لأثرثر على رصيف مقهى مع أصحابٍ هزمتهم اللاجدوى هم أيضًا.
اقرأ/ي أيضًا: أين أمجد يا غسان؟
في إحدى السنوات كنت هناك، كنت فقط أريد أن أفعل شيئًا رمزيًا، أن أعيده إلى مدينته المحبوبة ولو على شكل عظمة. كنت أعرف ماذا تعني له القدس، وأعرف ماذا يعني هو للقدس، قرأت يومياته الضخمة شهقة شهقة وامتلأت حتى الاختناق بتفاصيل لهفته ومعاركه ضد الجهل والصهيونية والطائفية، ولكن الكاتب الكبير ميّتٌ منذ أكثر من ستين عامًا، ولن يشعر بمتعة هذه العودة الرمزية. "إلهي، مالذي أفعله في مقبرة مار جرجس المصرية الضخمة وسط كل هؤلاء الأموات؟".
صيف عام 2006، رفقة صديقٍ من غزة وصديقة طبيبة من القاهرة، ذهبت إلى مقبرة مارجرجس في مصر القديمة، الحارس استغرب كلامنا: "نبحث عن قبر كاتب فلسطيني مقدسي مات عام 1953".
"لا أظن أن هناك قبورًا لفلسطينين هنا". قال الحارس، لكن حارسًا آخر كان يسمع حديثنا صاح من بعيد، "نعم نعم هناك قبر لمسيحي فلسطيني مع عائلته، هناك من جهة الشمال".
ركضنا إلى شمال المقبرة صحبة الحارس، وقفنا أمام جبانة، وقرأنا فوقها: جبانة عائلة خليل السكاكيني.
- هل هذا يعني أن خليل السكاكيني هنا الآن؟ سألت الحارس.
- نعم هو هنا مع بعض أقاربه عظامًا فقط.
- عظامًا؟.!
استغرب الحارس من استغرابي، وراح ينظر إلى الحارس الآخر، وإلى وجهي الصديقين المرافقين لي متسائلاً عن ما أريده بالضبط.
ركضتُ باتجاه الحارس الذي شعر بالفزع، أمسكته من يده وجررته بعيدًا، أخرجت من جيبي مئة جنيه، وضعتها في جيب قميصه، وأنا أهمس في أذنه: "وبعد أن تخرج لي عظمة من عظامه سأعطيك مئة أخرى".
ارتجف وجه الحارس:
- عظام من يا سيدي؟
- عظام الشخص العظيم الذي يسكن هناك. سنعود أنا وأصدقائي إلى بوابة المقبرة، أنتظرك هناك، وخلسة تسلمني العظمة ويستحسن أن تكون عظمة كتف، ثم أسلمك المائة جنيه الأخرى.
- ومالذي ستفعله بالعظمة يا سيدي؟
- سأعيدها إلى مكانها الصحيح.
- وأين مكانها الصحيح؟
- في القدس.
- ولكن الرجل ميت يا سيدي.
صحيحٌ أن الرجل ميت، ولكن بالإمكان تقديم خدمات للموتى، أريد أن أهديه انتصارًا صغيرًا حزينًا.
بحلق الرجل في وجهي لدقائق، واختفى من أمامي، بهدوء، مشيت باتجاه البوابة مع أصدقائي، بانتظار العظمة من الحارس الذي اختفى ولم يعد.
اقرأ/ي أيضًا: