مقال رأي |
هذا يوم آخر بلا اسم ولا تاريخ.
الأيام أرقام من نوع آخر، لا علاقة للتاريخ بها.
أنت تقول: هذا هو اليوم الثالث من شهر الطوارئ الثاني، أو: هذا هو اليوم العاشر على خضوع قريبي للحجر الصحي الإلزامي، أو: هذا هو اليوم الثلاثون الذي لم أرَ فيه أمي.
لست مشغولاً بحال الدنيا بعد هذه الأزمة، ما يشغلني الآن: كيف نعيشها وكيف سنتجاوزها.. أو ربما تتجاوزنا!
الخوف اليوم ليس من المرض- الفيروس، وليس من الموت بمعناه الشخصي. نحن نخاف على وقع ألمنا أو موتنا على من نحب، ونخاف أكثر أن يصل الألم أو الموت من نحب.
نحن نخاف لأن غدًا مجهول، لا بالمعنى القَدَري، فهو كذلك دومًا، لكنّه جهل حيادي بالكامل، قد يخبّئ الغد الفرح أو الحزن. لكنّه اليوم مجهول، وهو يخبّئ الحزن والخوف والرعب والألم، والأمل أحيانًا.
تستيقظ كل صباح، وتتأكد أن كل من تحبهم بخير. يمدّك هذا بطاقة للاستمرار يومًا آخر. وتبحث عن ركن في البيت تمضي فيه يومك.
اقرأ/ي أيضًا: يوميّات في الحجر الصحي.. عائلة فلسطينية في بكين
لقد التزمت وأسرتي بالحجر المنزلي. زوجتي وأولادي لم يخرجوا من البيت منذ شهر تقريبًا. وأنا توقفت عن الخروج عندما رتّبت أمور العمل عن بُعد منذ أسبوعين أو أكثر. لم أعد أذكر حقًّا.
أخرج كل بضعة أيام، إمّا للمشي في الجبال المحيطة، ودون أن أقترب من أحد، أو لشراء ما يلزم البيت. وهذه مهمة شاقة.
أعيش خوف أن أحمل الفيروس على كيس شبس أو حبة شوكولاتة. أعقّم كل شيء أشتريه، لكنني أظل قلقًا: هل دخل الفيروس على علبة التونا؟ أو على عبوة المنظفات؟
هل من جدوى حقًّا لهذا الحجر الإلزامي الذي يلتزم به قوم دون غيرهم؟
هل النجاة حقًّا فعل فردي؟
ما فائدة التزامي بيتي وخروجي متخذًا كل وسائل الوقاية، فيما أرى من هم حولي لامبالين، ويعيشون حياتهم –وحياتي حتمًا- بمنتهى العبث؟
الكارثة أن هذا الفيروس لا يكتفي بالعابثين فقط، بل إنه يطال الجميع، دون تفرقة!
هل حقًّا ستضيع كل هذه الإجراءات الوقائية؟ ولن نخرج من كل ما مضى إلا بالمزيد من القلق؟
اقرأ/ي أيضًا: تأمّلات في زمن الطوارئ
ليست عندي مشكلة بالبقاء في البيت أشهرًا. هذه غاية المنى! ماذا نريد أكثر من أن نكون وأسرنا معًا؟
لكن البقاء في مكان واحد، بما هو فعل قسري، بالتزامن مع الخوف، أمر مزعج.
تسقط كل الأمنيات التي كُنّا نحلم فيها أيام ضغط الدنيا: ننسى الكتب التي كنا سنقرأها، وننسى أسماء الأفلام المؤجلة، وننسى حتى أصدقاءنا الذين حالت مشاغل الدنيا دون لقائهم.
نتابع الأخبار بلا توقف، ونقنع أنفسنا أننا بخير ما دمنا قادرين على معرفة أعداد المرضى، ونقول: علينا أن نخاف عندما نعجز عن إحصاء أعدادهم.
تتحول النجاة إلى جهد فردي، لكنّه أيضًا ناقص. كيف نطمئن على البعيدين عنا، الساكنين قلوبنا؟
أنا وأخي نسكن في بناية واحدة، شقتي فوق شقته تمامًا.
في الأسبوعين الأولين من حالة الطوارئ، حرمنا أبناءنا اللقاء. أسبوعان كاملان وأبناؤنا يتواصلون عبر الهاتف، أو عن الشرفات. كانوا بعيدين رغم أن بيننا جدارًا واحدًا.
بعد الأسبوعين، بدأنا نسمح للأطفال بالتزاور المضبوط، كأنهم خارجون في مهمة: انتبهوا، واحذروا، وممنوع.. إلخ من الأدعية والتراتيل.
طيب، نحن بخير. كيف نطمئن على من هم بعيدون؟ هل تجدي النصائح والتحذيرات؟
النصائح فعل فردي صرف. أنت لا تنصح مجموعة. النصيحة تُفصّل كالثياب، ولكل امرئ نصيحة تناسبه.
وتفقد النصائح معناها إذا امتلأت بلاغة. إنها تتحول إلى قصائد تصلح للاستماع إليها آخر الليل. لكنها ليست مجدية.
لست مشغولاً بحال الدنيا بعد هذه الأزمة، ما يشغلني الآن: كيف نعيشها وكيف سنتجاوزها.. أو ربما تتجاوزنا!
اقرأ/ي أيضًا:
الكرنتينا: تاريخ الحجر الصحي في فلسطين