على مائدة طعام في أطراف مرج بن عامر وتحديدًا في قرية الجلمة، قُدّمت عدة أطباق للضيوف وكانت جميع أصنافها مُعدة من ثمار القرع (الدّباء). واشتملت المائدة على أطباق رئيسية وثانوية وحلويات وعصائر، وذلك ضمن جولة "القرعيات" التي نفذت في مشروع عليكم جيرة الذي يهتم بالزراعة والثقافة الفلسطينية المرتبطة بها. تنوعٌ فريدٌ ومذاقات غريبة دفعتني لخوض رحلة البحث عن حضور القرعيات (القرع - اليقطين) في المطبخ الشعبي الفلسطيني.
بذار ونبات
يُعد القرع من أقدم الخضروات التي زرعت في منطقتنا، حيث يُقال بأنه عرف منذ 5000-7500 سنة قبل الميلاد، وهناك إشارات تاريخية تشير لوجوده في مصر مُنذ الفترة الفرعونية، إذ تم العثور على رسومات تخصه على جدارن مقابر الأسرة الثانية عشرة.
هناك إشارات تاريخية تشير لوجود القرع في مصر مُنذ الفترة الفرعونية، وقد ذكروا بأن أنواع القرع بلغت نحو 45 صنفًا
وتشير كلمة القرع إلى النبتة وثمرتها التي تمثل الجزء الذي يأكله الناس، والقَرْعُ كما في لسان العرب: حمل اليَقْطِين، الواحدة قرعة. وكَانَ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، يُحِبُّ القَرْعَ. وأَكثر مَا تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الدُّبَّاء.
اقرأ/ي أيضًا: المسخن: تكامل خيرات البيت الفلاحي
ونباتات القرع لها أوراق عريضة ذات خمسة فصوص، تحمل أزهارًا صفراء برتقالية. وقد ذكروا بأن أنواع القرع بلغت نحو 45 صنفًا، وهي تنتج ثمارًا مختلفة الألوان والأشكال والأحجام والمذاق والصفات المميزة. وفي فلسطين تشيع أنواع منه أشهرها القرع العسلي (قرع المربى)، وقرع الحنش، والقرع المسكي، والقرع الرومي/ المغربي، وقرع الدباء، والقرع الطويل.
وأصل كلمة قرع من التشبيه بالقراع والصلع نسبة للون الجلد كما يُقال. ونجد وصفات كثيرة لأطباق من القرعيات في مؤلفات من العصر العباسي وما بعد. ونجد القرع حاضرًا في أشعار العرب وقصائدهم. كقول امرئ القيس (500-540) في وصف الفرس التي يركبها:
إذا أقبلت قلت دباءة .. من الخضر مغموسة في الغدر
وقد شبها بالدباءة (القرعة)، لدقة مقدمها وضخامة مؤخرها وهذا يُستحب في الخيل.
ومما يُنسب لإبن رافع الاندلسي قوله:
وقرع تبدي للعيون كأنه .. خراطيم أفيال لطخن بزنجار
مررنا فعايناه بين مزارع .. فأعجب منها حسنه كل نظار
أما أبو العلاء المعري (973-1057م) فقد قال فيه:
بِئْسَ إِدامُ العَزَبِ المُعْتَلِّ ... ثَرِيدةٌ بقَرَعٍ وخَلِ
وقد ذكر الشيخ العلامة شهاب الدين المنصوري (1396-1482م) حلوى القرع في أحد أشعاره:
يا عين أعيان الزمان ويا .. شيخ الشيوخ ومحبي الشرع
ما قـرع الباب عليـك امـرؤ .. إلا وذاق حـلاوة القـرع
والقرع عمومًا معروف وثماره لحيمة بذرية، وهي طاردة للديان وتؤكل نية أو بعد تحميصها، ولعصيره استخدامات طبية عرفها العطّارون العرب وذكرت في كتبهم. وقد عرف المطبخ العربي أطباق متنوعة تُعد من القرع، وقد وصفوه بأنه طعام غني مفيد وهو سهل للهضم. وهناك أنواع منه عرفت للزينة، وبعضها استخدم كآنية لحفظ المشروبات والأطعمة، وقديمًا استخدمت بديلًا عن القدور للطبخ وغلي الماء.
كان القرع ذا قدر ثمين عند القدماء، وهو مذكور في القرآن الكريم وفي الكتاب المقدس / العهد القديم
وكان القرع ذا قدر ثمين عند القدماء، ومما يذكر عن ذواقة الطعام الروماني الجنرال لوكوس (57 ق.م) أنه كان يُقدم حلوى لضيوفه مصنوعة من القرع والعسل.
اقرأ/ي أيضًا: الخُبّيزة.. ربيع المعدة و"سِت الطناجر"
ومن القرعيات اليقطين، وهو أيضًا أنواع وأصناف، واليقطين في تعريف علماء العربية: "ما لا ساق له من النبات ونحوه، أو كل شيء ذهب بسطًا في الأرض، نحو القرع، والبطيخ، والشريان، والدباء، والحنظل، ونحوها، وهذه الاصناف كلها تُسمى عائلة القرعيات.
واليقطين مذكور في القرآن الكريم وفي الكتاب المقدس / العهد القديم. وقد ذهب بعض علماء التفسير إلى أن المراد من اليقطين في القرآن الكريم القرع أو الدباء، وقال بعضهم بأنه البطيخ، وقيل غير ذلك. وتشير بعض المراجع بأن أول ذكر لكمة يقطين وردت في الاشورية - البابلية بلفظة (كوكانيتم)، ومنها انتشرت في الشرق القديم مع تحوير بسيط اقتظته طبيعة كل لغة.
وقد ذكروا أن أمية بن أبي الصلت أشار إلى قصة "يونس"، وكيف أن الله أنبت عليه شجرة من يقطين، أظلته وعاش عليها، إذ قال:
فأنبت يقطينًا عليه برحمة .. من الله لولا الله ألفي ضاحيا
ولنبات اليقطين أوراق كبيرة تنتج أزهارًا ذكرية وأنثوية، والأزهار الذكرية تحمل اللقاح الذي ينقله النحل إلى الأزهار الأنثوية، حيث تتفتح الزهرة الأنثوية للتلقيح لمدة يوم واحد فقط، فإذا تم تلقيحها تحولت الأزهار المؤنثة إلى يقطينة.
مُعتقدات وحكايات
ترد القرعيات بأنواعها في كلام الناس واعتقاداتهم، فمثلًا نسمع من العجائز قولهن: "يستحب أكل اليقطين مطبوخًا"، ومرد ذلك اعتقادهن أن فيه شفاء وأنه ثمرٌ مبارك لأنه حمى جسد النبي يونس يوم خرج من بطن الحوت.
ليس الأمر حكرًا على الموروث العربي، ففي الأدب العالمي نجد عدة حكاياتٍ شعبية تحضر فيها القرعيات برمزيتها العالية
وليس الأمر حكرًا على الموروث العربي، إذ نجد اعتقادًا قديمًا يزعم بأن للسحرة قُدرة على تحويل أعدائهم لأحد أنواع القرع. وفي فرنسا يُعتبر القرع رمزًا للبلاهة والرأس الفارغ، غير أنه يُعتبر في الشرق الأقصى رمزًا للوفرة والخصب، وبذوره تحمل رمزية سر الخلود.
اقرأ/ي أيضًا: المفتول: طبخة النبي سليمان
وعند الشعوب التي تحتفل بأعياد الموتى وتحيي ذكراهم يحضر القرع (قرع الزينة) برمزية عالية، كما نجده في عيد الهالوين، حيث يُصنع منه فانوس يُسمى بـ "مصباح جاك" أو "مصباح القرع". وللأمر قصة طريفة عن شخص يُعرف في الأدب الغربي باسم: جاك الخاطىء، وهو شخصٌ أغلقت بوجه الجنة نتيجة لأعماله السيئة، فهام في الأرض حاملاً فانوسه المُضيء. ولأجل ذلك يُصنع فانوس القرع لمساعدة المُخطئين في العبور إلى طريق التوبة والتطهير.
وفي الأدب العالمي نجد عدة حكاياتٍ شعبية تحضر فيها القرعيات برمزيتها العالية. ففي حكاية سندريلا الشهيرة تقوم الساحرة بتحويل حبة قرع عملاقة إلى "عربة سندريلا" لتقلّها لقصر الأمير. وفي حكاية من الأدب الإيراني نسمع قصة "اليقطينة المُتدحرجة" التي تسرد حكاية عجوز تريد زيارة ابنتها في الطرف الآخر من الغابة، ولذا كان عليها الاختباء داخل حبة قرع كبيرة، وأنها بهذه الحيلة استطاعت خداع الحيوانات المفترسة والوصول بسلام.
ويسرد لافوتين في خرافاته حكاية "البلوطة واليقطينة"، وهي قصة فلاح اعتقد بخطأ تقدير الخالق حين جعل شجرة البلوط القوية تحمل ثمارًا صغيرة جدًا، في الوقت الذي تحمل نباتات اليقطين الضعيفة ثمرة كبيرة، وأنه لما استراح تحت شجرة بلوط، سقطت حبّة بلوط على أنفه فجرحته، فلما أفاق أدرك الحكمة التي غابت عنه، إذ لو وقعت حبة اليقطين على رأسه لهشّمته.
القرع صار رمزًا للفساد والفاسدين في الاعتقاد الشعبي العربي، حيث يُقال "القرع السُلطاني" في إشارة للفاسدين حول السلاطين، أو لمن يقبل بالسلوك المُشين لأهل بيته
وهنا لا يفوتنا أن نشير إلى أن القرع صار رمزًا للفساد والفاسدين في الاعتقاد الشعبي العربي، حيث يُقال "القرع السُلطاني" في إشارة للفاسدين حول السلاطين، أو لمن يقبل بالسلوك المُشين لأهل بيته. وعلّة ذلك أن القرعيات أعفيت من الضرائب في العهد المملوكي، وكان تجارها يعاملون معاملة خاصة لأنها ثمار لا روح لها في الشمس والحرارة فتذبل بسرعة. ويقال إن باعة القرعيات كانوا يدخلون السوق في العهد المملوكي وهم ينادون عليها دون الوقوف في الطابور لدفع الرسوم. ومن هنا تسلل الفساد للقرع حيث صار البعض يدخل بضاعته من غير ضريبة بحجة أنها قرعيات.
ثم جسد الشاعر بيرم التونسي في قصيدته (القرع السلطاني) حكاية الفساد المرتبط بالقرع حين انتقد فيها ما أشيع عن علاقات غرامية في قصر الملك فؤاد الأول، وكان مطلع قصيدته:
البنت ماشية من زمان تتمختر .. والغفلة زارعة في الديوان قرع أخضر
تشوف حبيبها في الجاكيته الكاكي .. والسته خيل والقمشجي الملاكي
تسـمع قولتهـا : يا وراكـي .. والعافية هـبلة والجـدع متـشـطر
أقوال وأمثال
يعكس حضور أي ثمرة أو نبات في المأثور الشعبي مدى تداوله ومعرفة المجتمع به، الأمر الذي نجده في القرعيات عمومًا (اليقطين- القرع- الكوسا- البطيخ). ففي الموروث الشعبي نجد أقوالاً وأمثالاً عن القرعيات. ومنها ما يُقال في المثل الشعبي:
- "أحر من القرع": يضرب المثل في القرع رغم كونه بارد في طبعه، لأنه يُمسك حرَّ النار إذا طبخ به إمساكًا شديدًا، فلا يزول عنه إلا بعد مُدّة. ولأجل ذلك قيل في المثل الشعبي على لسان الذئب: "لا آمنك يا قرع ولو كنت في الماء"، بمعنى لا آمن حراراتك حتى لو كنت في الماء البارد.
- "مثل القرع بمد لبرا": بمعنى أن هذا النبات يتمدد خارج البيت أو الجنانه، ويضرب المثل لمن يكون خيره ونفعه لغير أهله.
- "القرع لمّا استوى قال للخيار يا لوبيا": ثمرة القرع عند نضجها أصبحت ترى حبة الخيار كأنها حبّة لوبياء صغيرة. ويقال للتعبير عمن ينتقص ممن يُشبهه أو كان قريبًا منه.
- "مثلها مثل اليقطينة صغيرة وكلها تينة": هذا مثل في وصف النساء وخصوصًا للزواج، بمعنى أنها صغيرة الحجم ومتناسقة كاليقطين وهي بذات الوقت طرية كحبة التين.
ومن الأمثال أيضًا: "مثل الفار اللي دخل قرعة"، "راسه زي القرعة كبير وفاضي"، "مثل القرعة المنسية ع إمها"، "مثل اللي ماكل يقطين وبخفش في الطين".
وفي الحزازير الشعبية نسمع قولهم عن القرع واليقطين: "حزرتك بزرتك، ضربتك فزرتك، أدحكل قدامك حسبتُه فدانك شو هي يا تُرى"؟ ومثلها أيضًا: "حبل بيشرب والحماره بتنتفخ"، في إشارة لأن نبات القرعيات يمتد كالحبل بشكل رفيع، والثمرة تكون ممتلئة وكبيرة.
اقرأ/ي أيضًا: