حدثت كل هذه اللامبالاة بسبب التكرار ربما، أو بسبب غياب النموذج الذي يشد أطفالاً مثلنا وقتها لأخذ الأحداث الوطنية بشيء من الجدية، فقد كانت المعلمات مثلنا يسعدن بتعليق الدوام يوم (الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر) بسبب وعد بلفور مثلاً، وكنا نسمع أحاديثهن في اليوم التالي عن كيف قضين "إجازتهن" بعد تعليق الدوام بسبب ذكرى النكبة.
أصبحت هذه الأيام بالنسبة لنا أيامًا مباركة لا تعني لأطفال مثلنا شيئًا إلا التخلص من المدرسة، فقد كانت الفوضى وحالة الخروج عن روتين الدوام اليومي هو ما نعيشه فقط، ومع غياب أي نشاط أو فعالية مخصصة للأطفال؛ أصبح بلفور مثلاً اسمًا مبهجًا في عالمنا البريء، فالنصوص المكررة التي كانت تُلقى عبر الإذاعة المدرسية عن جريمة الرجل لم تكن أبدًا لتغلب البهجة التي نعيشها في هذا اليوم.
الدبكة، والأغاني الوطنية، والكلمات الطويلة المملة التي لم نفهم منها سوى أننا نحب البلاد بقدر ما نكره الاحتلال وأكثر، لم تكن كافية أو مفهومة لتجدد فينا كأطفال أي مشاعر حب أو ألم اتجاه البلاد
الدبكة، والأغاني الوطنية، والكلمات الطويلة المملة التي لم نفهم منها سوى أننا نحب البلاد بقدر ما نكره الاحتلال وأكثر، لم تكن كافية أو مفهومة لتجدد فينا كأطفال أي مشاعر حب أو ألم اتجاه البلاد، ولم يكن تعليق الدوام أو الفعاليات الاحتفالية بهذه الأيام الوطنية ليرسم لنا مشاهد جديدة نخزنها في ذاكرتنا عن القضية، لم تُقرأ لنا قصة عن البلاد، ولم نجلس في حلقات دائرية على الأرض لنحكي عنها، ولم يسألنا أحدٌ إذا كان لدينا أسئلة عما حدث أو ربما مقترحات لجعل ما يحدث الآن أقل وجعًا.
اقرأ/ي أيضًا: الخطابات.. هكذا نسد جوعنا للحرية
لقد أُفسدت مشاعرنا وسرقت منا لحظات خاصة كان من الممكن أن نتشاركها مع البلاد في تلك الايام. المهم هنا أننا انتقلنا من كوننا أطفالاً يبهجهم تعليق الدوام، إلى طلاب جامعات يبهجهم تعليق الدوام، إلى موظفين يبهجهم تعليق الدوام. فتعليق الدوام حدثٌ ثابتٌ في حياتنا لا نتعامل معه بالمشاعر أو الأسئلة، بل نعامله بالخطط كما نعامل عطل نهاية الأسبوع. وبعيدًا عن هذه المشاعر يظل السؤال: لماذا نعلق الدوام؟
تمت تنشئتنا على أننا أصغر من القضية، وأننا أقل شأنًا من أن نطرح الأسئلة حول جدوى ما يقوم به الآخرون تجاهها، وبينما نعيش في مجتمع يؤمن أن تكرار الماضي هو الطريق الوحيد لضمان المستقبل، فإن سؤال "لماذا نعلق الدوام؟" يزداد خروجًا عن الصف الوطني كلما مرّ المزيد من الوقت، لأننا في هذا الوقت لم نقدم أي جديد للبلاد، فبات التمسك بالقديم هو الحل الوحيد لملأ فراغ "اللا جديد" الذي نعيشه.
تمت تنشئتنا على أننا أصغر من القضية، وأننا أقل شأنًا من أن نطرح الأسئلة حول جدوى ما يقوم به الآخرون تجاهها، وسؤال "لماذا نعلق الدوام؟" يزداد خروجًا عن الصف الوطني كلما مرّ المزيد من الوقت
هناك مسار يظهر وقت الحاجة له في النقاشات السياسية، وفي هذا المسار يتم تحويل القضية الفلسطينية إلى كائن منفصل عن شعبها، كائن لا يتحدث باسمه إلا القليلون ولا يسمح لأي أحد بالتساؤل عما يحب أو يكره، عما يفيده أو يضره، لذلك يصعب على الكثيرين مثلاً أن يتسألوا: كيف يمكن لتعطيل دوام المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية وإغلاق المحلات التجارية أن يصبح تعبيرنا المفضل عن الغضب أو الحزن أو الحب؟ لأن الإجابة ستأتيهم بأن هذا السؤال يضر بالبلاد.
في إحدى أيام الصيف استشهد شاب على حاجز قلنديا بعدما أطلق جنود الاحتلال رصاصهم تجاهه دون أي سبب يستدعي ذلك، كما قالت نشرات الأخبار وقتها، في ذلك اليوم وبينما المحلات التجارية في مدينة رام الله تغلق أبوابها استجابة لدعوات الإضراب العام، سمعتُ شاباً يُحدث آخر بغضب عن رفضه إغلاق محله قائلاً أنه لا يعرف الشهيد، وأن لا صلة له به فلماذا عليه أن يغلق محله؟! لو تم تسجيل صوت الشاب الخالي من الإحساس وقتها لكان تسجيلاً مناسبًا لتشرح لأحدهم كيف تبدو خيبة الأمل، وما هو صوت انقطاع الرجاء، ورغم أنني لا أفهم لماذا نعلق الدوام ولماذا نغلق أبواب المحال، إلا أن صوت الشاب المتأفف أكد لي مخاوفي من أن تعليق الحياة قد لا يعزز أي انتماء وطني، وإنما يخلق البهجة لدى البعض والتأفف لدى البعض الآخر، والوطن على الأغلب لا يحتاج لكليهما.
اقرأ/ي أيضًا: