12-أكتوبر-2024
عُقدة الناجي من الحرب.. عن ميّت يتنفّس!

(ultrapal) عُقدة الناجي من الحرب.. عن ميّت يتنفّس!

تحت سقفٍ من الفراغ المُروِّع تحوم الذكريات، كأنها رماد بيتٍ قُصِف للتوِّ ولم يَرْسُ، ينكَفِئ رأسُها على الوسادة كمن أصابته خيبة. تنادي "ماما"، قلبُها ينوحُ وفمُها مُغلق. تُغمِض صفاء عينيها، فترى طيفَها داخل الخيمة مُتعَبًا هزيلًا، ووالدها في زاويةٍ قريبة يبكي شقيقيه الشهيدين، وتقول: "طَعَن الرحيل ظهره، وصعد به سُلّمًا من البؤس لا نهاية له".

يسموننا ناجون. أخبرونا كيف ننجو ولنا في غزة أحبة يسابقون القذائف في مضمار الموت الواسع؟! كيف ننجو، ونحن معهم هناك، رحلنا، لكننا لم نُغادر غزة أبدًا

تشدُّ على رأسها الغِطاء، ثم تلفظهُ دفعةً واحدة وتبكي على إيقاع شعورٍ مُرٍّ بـ"الهزيمة"، عندما نَجَت بجسدها في "بلاد الله الواسعة"، واغتيلت روحها هناك، حيث أمها وأبوها في الخيمة بغزة.

صفاء دهمان، شابةٌ فلسطينية، عاشت صنوف العذاب تحت نيران القتل والإبادة سبعة أشهرٍ، ثم لملمت شتات روحها في حقيبةٍ ورحلت. وصلت مصر قبل إغلاق معبر رفح البري جنوبي القطاع بيومين فقط، و"كانت الخِطّة أن يلحقا بي بعدها بأيام"، لكن أبواب المعبر أُوصدت، والنيران أُضرمت فيه فأكلَت قلبها، وألقَتْ به في قعر الخوف وحيدًا، يرى في الضحك "خيانة"، ويعذّبه "باب غرفةٍ مُغلق"، و"ليلٌ هادئ"، و"دفء سرير".

صفاء واحدةٌ من قرابة 100 ألف فلسطينيٍ غادروا قطاع غزة منذ إعلان "إسرائيل" حربها قبل عام. واحدةٌ من 100 ألف قلبٍ يعيش اليوم "عُقدة الناجي"، حرٌّ في قفصٍ كبير، يلوك "الغصّة" في طعامٍ يشتهيه الأحبة هناك، تحت سقف الخيمة.

صفاء دهمان برفقة أمها

تُحدّثنا صفاء عن شعور البداية، عندما أفلتَت يد أمها ومضت، ولفّت ظهرها ناحيتها ألف مرة قبل أن تغيب في طريقٍ طويل، فصَلَ -حرفيًا- بين مُر الموت وحلو الحياة. "أترى حين تكون في قاع بئر، ثم تجد بابًا تفتحُهُ فيأخذك إلى الجنة؟"، تصف.

تزيد: "كأنني في كوكبٍ آخر، لا طائرات استطلاع تُعكّر صفو السماء ولا أصوات قصف. أناسٌ عاديّون يمشون في الشوارع، يتحدثون ويضحكون ويأكلون الفوشار! شوارعٌ مُضاءة، وشاشات تلفزةٍ في المقاهي تعرض هدفًا للأهلي. فرقٌ كبيرٌ بين الصّياح هنا وهناك. "أين أمي؟ سألتُ بحرقة. لا ينقصني إلا هي الآن، وأبي يمسك بيدي ويضحك".

تصحو صفاء صباحًا. تقطعُ مسافةً من البكاء بين سريرها وشاشة التلفاز. تطوي نفسها على أريكة البيت الذي استأجرته، وتبدأ رحلتها في متابعةٍ صامتة لفيلم الموت الطويل، حيث الشاشة تنقسم بين شمالٍ وجنوب! في كل زاويةٍ دمعة، وفي كل قسمٍ مناشدةٌ ورجاء.

تقول: "أشعر بالعجز. لا أخرج من البيت إلا لحاجة. أفضّل البقاء في غزّتي التي لحِقَتْ بي إلى هنا. في حضن الشاشة وتحت سقف الخيمة، أشارك أهلي القهر والخوف وغصة الحرمان".

عقدة الناجي، هي شعورٌ بالذنب يلاحق شخصًا نجا وحده، بينما لم ينجُ آخرون يعرفهم ويحبّهم، ويمكن اعتبارها أحد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة 

تخرج صفاء أحيانًا برفقة صديقتها، فتجد نفسها لا تفعل شيئًا إلا أنها تتمشّى في حبسٍ كبير. كل شيءٍ ينقصها وهي التي نزحت من بيتها شمالي القطاع بدون شيء. كل شيءٍ ينقصها لكنها لم تشترِ أي شيء، "الاكتفاء في حضرة الحاجة بغزة، أيضًا خيانة" تعلّق بأسى.

ينحسرُ مَدّ البُكاء، وتشرق شمس قلب صفاء، فقط عندما تسمع صوتًا عبر السمّاعة يناديها: "صفاء. كيفك يا ماما؟"، ثم صوت والدها حبيبها وصديقها يبث في روحها الطمأنينة: "تخافيش علينا، احنا بخير".

بعد خمسة أشهرٍ من البُعد ترى صفاء وجه أمها في كل ما تحبُّه: في لون الشاي ورائحة النعناع الذي اشتهتهُ مرّةً ولم تجده. في ثوبٍ قُطنيٍ يُبرّد على قلبها حرّ الصيف، وفي "دوش ماءٍ ساخن"، ووردةٍ جورية تراها من شباك نافذتها صدفة. تراها في وجه كل أمٍ مقهورةٍ في مربع الأخبار.. تحكي عن حرقة النزوح ووجع الفقد، وتبكي.

"الفرح خذلان"

إلى إسطنبول، تمتد العُقدة! أُجليت آلاء النفار برفقة زوجها وطفليها من غزة تحت النار في كانون الأول/ديسمبر، وتركت روحها هناك في غزة، برفقة أمها وأبيها.

تجالِسُها، فتسمعُ في كلماتها ضجيج تعبٍ صاخبٍ ينهمرُ صدَاهُ من كل صَوب. تأتي كلماتها كأنها القصف كلما ذكَرَت يوم الرحيل، وتقول بعلو صوتها: "يا ليتني بقيت... الميّتُ يمكن أن يتنفس" حسب تعبير آلاء، و"نحن ميتون"، تضيف.

تعيش الأم العشرينية "عقدة الناجي" كأنها لم تنجُ قط. وتضيف: "العقل والقلب والروح والسمع والبصر كله هناك (..) الفرح خذلان هنا".

وتروي: "نزح أهلي من مدينة غزة إلى خانيونس جنوبًا. تركوا كل شيءٍ خلفهم، ومضوا يحملون في قلوبهم ثِقَل الهمّ فقط. بعد أول اجتياحٍ للمدينة، انهمرت مناشير الإخلاء: قالوا لهم اتجهوا نحو المواصي، فلما اشتدّ الضرب خرجوا. ودّعوني برسالة، طلبوا الدعاء ومضوا".

"ساعاتٌ مرّت كأنّها العُمر كلّه"، على حدّ وصفها، "عَرَفتُ بعدَها أن السيارة لم تستطع إكمال الطريق بهم بسبب الإطلاق العشوائي للرصاص من قبل مُسيّرات ’الكواد كابتر’، أكملوا طريقهم تحت النار هرولة، أبي الستّيني، وأمي الخمسينية، ركضوا تحت غطاءٍ من الموت فردَتْهُ الطائرات في سماء خانيونس"، تقول. تصمتُ قليلًا ثم تتساءل: "كيف أنجو؟".

تتخيل آلاء المشهد كلما وقفت أمام نافذة الغروب، وتسأل نفسها: "ماذا كنتُ سأفعل لو حدث لهما مكروه؟". تتمنّى لو أنها بقِيَت معهما "لكنتُ حَمَيتُهُمَا بظهري"، كما تقول.

لآلاء شقيقةٌ فقدت ولديها وزوجها في قصفٍ طال مدينة غزة. "حتى هي تعيش عقدة الناجي"، كما تخبرنا. تسأل نفسها كلما ركَنَت إليها: "لماذا رحلوا ونجوتُ أنا؟"، وتقضي من وقتها ساعاتٍ تُقلّب الصور. تراجع ذكرياتها معهم، وتجلد ذاتها -على سبيل المثال- "لأنها رفضت أن تجلب لأحدهما كُرةً مرة".

أمام الطبيعة في تركيا، لا تشتهي آلاء شيئًا إلا أن تمرّ على مسامعها ضحكات أمها. تتخيّلها على كرسيٍ قريب تمسحُ عن قلبها الخوف الذي يكبّلُه. تأكل معها طعامًا لا يشبه معلّبات الحرب، وتنام في حضنها على سريرٍ ليس "كفِراش الخيمة في شتاءٍ مَر".

رحلنا لكن لم نُغادِر

وفي بيته بسلطنة عُمان، أيقنَ الصحافي مصور قناة (CBS) الأمريكية فارس الغول، أن "وطنه" وجه أبيه. يأتيه صوته مُتقطّعًا من غزة عبر صورةٍ مُكسّرة. يُخبره كم اشتاق، وكم يتمنّى لو يعود به الزمن فلا يتركه، ولا يرحل.

في طيات محادثةٍ تتزاحم فيها المشاعر يباغتهما صوت القصف، يضرب فارس رأسه ويصرخ: "لماذا أنت هناك، وليس أنا؟". كان عليه أن يغادر كما قررت القُرعة التي أجراها والده بينه وبين أخيه (وكليهما كانا يرفضان الرحيل)، برفقة أمه وعائلته وعائلة شقيقه أيضًا. أن يترك قلبه مفتوحًا هناك في غزة، ويخرج بدونه هائمًا على خوفه، قلقًا في كل لحظةٍ من صوت رنين الهاتف، يطعنه صوت رسائل "الواتساب" عندما تتتابع بلا رحمة.

الصحافي فارس الغول ووالده
الصحافي فارس الغول ووالده مروان

والد فارس هو الصحافي مروان الغول. من تحت النار يحاول نقل ما يجري. تطال المناطق التي يغطّيها أذرع اللهب -على الهواء مباشرةً- فـ"يصل الحريق قلب فارس"، يسأل الأب الصامد هناك عن حفيداته، فيُصدّر له صورة. في الكادر لا شيء سوى وجوههن.

ويقول: "أجلدُ ذاتي لو ظهر عفوًا طبق سلطة. أرى نفسي مجرمًا لم يحترم حرمة الحرب والجوع والقصف والنزوح والفقد.. لم يحترم حُرمة الشوق والصبر في وجه أبيه الذي لا يفتأ يوصيه: كلوا عنّي كل شي.. إفرحوا كإني عشت الفرح".

يبتلع غصّته ويكمل: "يسموننا ناجون. أخبرونا كيف ننجو ولنا في غزة أحبة يسابقون القذائف في مضمار الموت الواسع؟ كيف ننجو، ونحن معهم هناك، رحَلنَا.. لكننا لم نُغادر غزة أبدًا".

"لماذا ظلّوا.. ونجوت؟"

وقبل أن تحدّثنا الأخصائية النفسية ليلى أبو عيشة، التي خرجت من غزة تحت النار نحو القاهرة مطلع أيار/مايو الماضي عن "عقدة الناجي"، بكت.

قالت: "بالأمس أُصبتُ بنزلة برد، ورفضتُ تناول الدواء. لماذا تكون الحياة سهلةً هكذا، وابنتي في غزة عانت قبل عدة أيامٍ من أعراضٍ شبيهة، فلم تجد مُسكّنًا في كل صيدليات المنطقة الوسطى؟".

خرجت ليلى من غزة برفقة ثلاثةٍ من أبنائها، وتركت مع زوجها ابنها (23 عامًا)، وابنتها (21 عامًا)، على أمل اللحاق بها بعد وقت.. أُغلق المعبر، وانسدّت أبواب الأمل على نهايةٍ قريبةٍ لحربٍ ضروس، وتقول: "كل يومٍ يمر عليَّ فيها كأنه عمرٌ بأكمله.. ذنبٌ يلاحقني. يجلدني، ويمزّق قلبي أشلاءً كلما حاولت الاتصال بهم ولم أصِل".

تلاحق الناجين ذكريات الحدث، وتتطور أحيانًا إلى هوَسٍ يرافق كل تفاصيل الحياة. تهيّج وغضبٌ أمام أدنى موقف، وشعور بالعجز، وخوفٌ وارتباك، وانعدام شغف، وأرق وصداع، وميل إلى العزلة

تخبرنا أن عقدة الناجي، هي شعورٌ بالذنب يلاحق شخصًا نجا وحده، بينما لم ينجُ آخرون يعرفهم ويحبهم، ويمكن أن نعدّها أحد أعراض اضطراب ما بعد الصدمة.

شعورٌ بالذنب يلاحق الناجين، وفق ليلى، يدفعهم للتساؤل عن سبب نجاتهم من الموت، في وقتٍ فقد فيه آخرون حياتهم. يحاسبون أنفسهم طويلًا على ما فعلوه أثناء الحدث الصادم، وما لم يستطيعوا فعله لمنعه.

تقول: "تلاحق الناجين ذكريات الحدث، وتتطور أحيانًا إلى هوَسٍ يرافق كل تفاصيل الحياة. تهيّج وغضبٌ أمام أدنى موقف، وشعور بالعجز، وخوفٌ وارتباك، وانعدام شغف، وأرق وصداع، غثيان وآلام في المعدة، وميل إلى العزلة، وقد يصل الحال بالناجي أحيانًا إلى التفكير في إنهاء حياته، واللحاق بمن فقدهم عقابًا لنفسه على تقصيرها بحقهم كما يظن".

يرى الناجي من الصدمة العالم كله مرتعًا للخوف والظلم، كما تقول، بينما يمكن أن يؤدي نقص الدعم أو كيل اللوم، والاتهام بالتقهقر والخذلان والجُبن من قبل الآخرين، إلى زيادة خطر تعرُّض الشخص لعقدة الناجي، "لا سيما لو تشكلت لديه بالفعل مشاعر مبالغ فيها حول دوره بما حدث، كأن يظن أنه لو كان موجودًا لعَرَف أن هذا سيحدُث، ولمَنَعه".

متى يكون العلاج مُلحًا؟

تشير الأبحاث، إلى أن العديد ممن يعانون "عقدة الناجي" أو اضطراب ما بعد الصدمة عمومًا، يتعافون دون علاج خلال السنة الأولى التي تتلو الحدث، في حين تستمر معاناة ما لا يقل عن ثلثهم لثلاث سنوات أو أكثر.

تنصح الأخصائية النفسية للتعافي من هذه الأعراض، إشغال النفس بالأنشطة المحببة، وتيقّن الشخص بأن وجوده أو رحيله لن يغيّر فيما كتب لأحبته. "النوم الجيد، وتناول الغذاء الصحي، وممارسة الرياضة يمكن أن تنفع أيضًا، وتساهم في تغيير النفسية"، تضيف.

تعرف ليلى جيدًا أن التخطّي صعب. "أتكلم مع ابنتي كل يوم. صبية أكلت الحرب قلبها، تخبرني بضحكٍ أحيانًا: تخيلي يا ماما صار الواحد نفسه بحبة بندورة؟ وين كنا ووين صرنا؟ فأجيبها وقلبي ينتحب: آه والله يا إمي".

لم تذُق ليلى البندورة منذ ذلك اليوم. تراها فتبكي، "كيف يهنأ لي تذوق اللقمة وابنتي تحت النار؟" تسأل بحرقة، لكنها تقول إنها تحاول أن تخرج من دوامة العقدة، من أجل ابنتها نفسها، التي تكلّمها فتطلب منها دائمًا أن تعيش و"ترى الدنيا التي حرمها منها الحصار 17 عامًا وأكثر"، تعقب.

تؤكد أن المساعدة العلاجية مطلوبة بشكل مُلِح للشخص الذي يشعر بالذنب الشديد، وتضغط على عقله ذكريات الماضي فتلاحقه على هيئة كوابيس. "هنا لا بد من استشارة طبية، أو اللجوء لمعالِج نفسي متخصص بالصدمات"، وتكون هذه الحاجة عاجلة -والحديث لأبو عيشة- عندما تراود الشخص أفكار كالرغبة بالموت تكفيرًا عن ما يؤمن أنه ذنب اقترفه بالرحيل، أو رغبةً في اللحاق بالأحبة.