لم تكن بلدة رامين شرقيّ مدينة طولكرم بعيدةً عن اعتداءات المستوطنين في بقيّة أنحاء الضفة الغربية، لكنّها منذ أن دق مستوطن رفقة عائلته، وتد خيمته الأولى في سهلها مطلع 2023، بدأت تشهد صراعًا متصاعدًا اختلف في طبيعته عن كل ما سبق، وقفز إلى ذروته بسرعة درامية بعد الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر، حيث بات على المواطنين أن يدفعوا عن أنفسهم هجمات المستوطنين من داخل قريتهم، بعدما كانت المضايقات تأتي قبل أشهر من خارجها، وتحديدًا من مستوطنة "عناب" غربيّ البلدة.
النار التي يُمنع أو يعاق الفلسطينيون عن إخمادها، هي وسيلة المستوطنين للاستيلاء على الأرض، بتبويرها حرقًا حدّ تفحم ما فيها من أشجار مثمرة ومعمّرة.. ماذا يحدث في رامين شرق طولكرم؟
النار التي يُمنع أو يعاق الفلسطينيون عن إخمادها، هي وسيلة المستوطنين الحالية في الاستيلاء على أكبر رقعة ممكنة من الأرض، بتبويرها حرقًا حدّ تفحم ما فيها من أشجار مثمرة ومعمّرة، فيحيط المستوطن الذي يتكتّل في قلب السهل نفسه بدائرة من نار، تأكل محيطها من أراضي الفلاحين التي يحظر عليهم الاقتراب منها.
"يريد المستوطن أن يمسح المساحات الخضراء المحيطة به"، يوضح مُنال زيدان، وهو باحث من البلدة، وواحد ممّن تفحّمت أراضيهم عقب إحراق الاحتلال جزءًا من سهل البلدة مطلع آب/أغسطس، حيث "أحضر الجيش عبوة ناسفة قال إنه وجدها في الشارع وفجّرها في جبل أبو مرتين بالسهل لإحراقه، ثم أجج النار فيه يدويًا" يوضح مُنال، الذي أكد أن الاحتلال رفض التنسيق مع الارتباط لمرور الدفاع المدني الفلسطيني، وحين قدّمت مركباته بمبادرة ومخاطرة رفقة شبان البلدة، هاجمها المستوطنون بالسلاح والحجارة، وبقيت النيران مشتعلة حتى خمدت ذاتيًا عصر ذلك اليوم، كما جرف الاحتلال 6-5 دونمات أخرى.
أشعل المستوطن نفسه النار مجددًا في السهل منتصف آب/أغسطس، حيث امتدت إلى قرى نابلس المجاورة كدير شرف، وتضرر جرّاء الحرائق حوالي 250 دونمًا موزّعة على 25 مزارعًا من رامين وحدها، منهم المزارع شوكت مجدوب (60 عامًا)، الذي احترق له 24 دونمًا من الزيتون المعمّر الذي "بقي بعضه يحترق ببطء 4 أيام".
يقول شوكت مجدوب: "لم تكن الحرائق ستأكل أرضنا بهذه الحِدّة لو لم يمنعنا المستوطنون من تنظيفها، وحين هبّت النار راح كل شيء"، مشيرًا إلى أنه يواجه عقبة أكبر مع فلاحي البلدة؛ إثر منع اقترابهم إلى أراضيهم بالسهل، له منها 50 دونمًا هي "مصدر دخله الأساسي"، حيث يخشى الاضطرار إلى شراء الزيتون بعدما كان يبيعه، "السنة يا قاتل يا مقتول، بدنا ننزل على الأرض، ولا بدنا نقعد نشتري زيتون!" أضاف مستعجبًا.
"سهل رامين متنفس للجميع، وهو شريان لأهلها"، بهذه الكلمات يُعبر عادل سلمان مدير جمعية الشعراوية لمستخدمي مياه الري، الذي احترق له 28 دونمًا، بالإضافة إلى منعه من الوصول إلى أراضيه فيه، ويضيف "قرابة 1500 دونم هنا ممنوع وصولها..وحاليًا يوجد داخله مشروع من الـ KFW لضخ مياه عادمة معالجة فيه للزراعة، ربما كان تخطيطًا للاستيلاء على المشروع والأراضي، هذا مخطط استيطاني لا نعرف لأين يذهب".
ويروي عادل رفقة ابن أخته فهمي زيدان كيف اعتدى المستوطنون عليهم حين حاولوا العمل في أرضهم آخر مرة، "ضربوني أنا وابني ورشوني بالغاز، وكسرولي تركتور ورافعة"، ويضيف فهمي الذي ضربه المستوطنون في أثناء جلوسه في سيارة "بضربوا ضربة قتل، ليس ضرب شجار، كانوا سيقتلون خالي، لولا أن أحدنا صعد باتجاه خيامهم، فلحقوا به وتركونا، ونقل خالي للمشفى"، ولم تكن تلك الحادثة الوحيدة لاعتداء المستوطنين، التي ينتهي بها المطاف لإسعاف المصابين للمشفى إن حالفهم الحظ، أو يعتقلهم جيش الاحتلال كما حدث مع ليث وسليمان أبناء شوكت مجدوب.
تبادل أدوار: مَن يساعد مَن؟!
يخرّب المستوطنون معدّات المزارعين، أو يسرقونها لاستخدامها في سهل أصحابها المسلوب، ويفلتون أغنامهم للرعي "دون أي محرمات" يقول مُنال، وهو ما يوضحه فهمي "لو ماتت إحدى مواشيه إثر مرض، يرميها في الشارع لتُعدي غيرها"، فيما يحرم البدو من الرعي هناك، وبذلك تتجلى صورة الاستيطان الرعوي التي يوصّفها مدير عام التوثيق والنشر في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أمير داود، بالمخططات المتفق عليها مع المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، ضمن حالة "تبادل وظيفي للأدوار معها"، فينفذ قلة من المستوطنين مهمات معينة، ثم تقوم دولة الاحتلال بتثبيت ما ينفذونه على شكل وقائع.
أمير داود: بين 6-8 آلاف دونم يمنع الاحتلال أصحابها الفلسطينيين من الوصول لها شرق طولكرم، عبر تكامل الأدوار بين الجيش والمستوطنين
وأضاف داود: "هذه المنطقة من أكثر المناطق استهدافًا، لإحداث تواصل جغرافي بين المستوطنات وتحديدًا مستوطنة عناب، بالسيطرة على كامل السهل وإلحاقه بها"، مشيرًا إلى أن نموذج البؤر الرعوية بات الأكثر اعتمادًا لدى الاحتلال للسيطرة على الأراضي كون "مستوطن واحد بإمكانه منع عدد كبير جدًا من المواطنين من مساحات شاسعة" وعند الحاجة "يستدعي عددًا كبيرًا من المستوطنين، أو من الجيش لحمايته ومساعدته برسالة عبر تطبيق واتساب"، مفيدًا بأن المساحة التي يمنع اقتراب المزارعين منها في المنطقة تتراوح بين 8000- 6000 دونم، أكثر من 1500 منها ضمن سهل البلدة وفق المزارعين.
ويروي محمد سلمان أحد مزارعي البلدة شواهد واضحة على "تبادل الأدوار" في سلوك المستوطن (وأبنائه وأبناء عمّه)، حيث يحاكي جيش الاحتلال بتسيير "دوريات" صباحية ومسائية للتأكد من خلو السهل وملاحقة من يُوجَد فيه، "من يوم ما إجا سيطر على السهل كلّه، كل يوم في دورية على جب، تركترون، دراجة أو فرس شقرا" وانعكس ذلك على أهل البلدة التي لم يعد يجد محمد فيها من يرافقه من مالكي المعدّات الزراعية الثقيلة للسهل خشية تدميرها.
موسم التين: ضحية التعطيش والإغلاق
في الوقت الذي تكفّل به المستوطنون بالاستيلاء على السهل العامر بالزيتون واللوز، منعَ الجيش الإسرائيلي الأهالي المرور في الشارع الرئيس للبلدة والأراضي على جانبيه، ما يعني تلف ثمارها من التين، الذي تميّزت البلدة بإنتاجه بكميات ضخمة موسميًا، و"في أغلب الأيام يُمنع الفلاحون من الوصول إلى أراضيهم على الشارع، فيدخلونها تهريبًا، بالمغامرة والمخاطرة" يقول نسيم القبّ رئيس مجلس قروي رامين، ذاكرًا حادثتين اقتحم فيهما جيش الاحتلال البلدة في ذروة الموسم، فاستحال خلالهما جمع الثمار، وخسروا محصول يومين علمًا أن "محصول اليوم الواحد يبلغ 5.5 طن من التين"، وفق القب.
وفي واحدة من الحادثتين، كان المزارعون قد جمعوا بالفعل كمية كبيرة من الثمار، واقتحمت قوات الاحتلال البلدة فجأة بعد تنفيذ عملية إطلاق نار على مركبة للمستوطنين قربها، فوجد المزارعون أنفسهم مضطرين لإلقاء الثمار على الأرض والابتعاد عبر الأراضي الوعرة بأسرع وقت، خشية استهدافهم عشوائيًا من الجيش الذي أحاطهم، وفق رواية رامي حمد أحد أولئك المزارعين.
ويعاني المزارعون كثيرًا لريّ محاصيلهم في البلدة، نظرًا لإغلاق الجيش الإسرائيلي الشارع المؤدي لبئر قريبة متاخمة لمنطقة نابلس يعتمدون عليها في الري، فيما يعترضهم المستوطنون عند محاولة جلب المياه منها عبر الطرق الوعرة: "يوقفوننا بالطريق ويسألون إلى أين نذهب"، يقول محمد، ويصف لحظات الرعب التي يعيشها في كل مرة يضطر فيها لاستطلاع المنطقة قبل خوض مغامرة جلب المياه، "بروح وبتوقع حالي ما أرجعش" يضيف، مستعرضًا بعض المواقف التي اعترضه فيها فتية مستوطنون خلال الأشهر الماضية "بفكر إني بين الحياة والموت، روحي في يده هو صاحب القرار خاصة إنه مسلح!".
غياب التعويض والدعم
ورغم إعلان هيئة مقاومة الجدار والاستيطان عن إستراتيجية دعم الصمود عبر "تعويض المتضررين وإن كان جزئيًا"، ومتابعة ملفات الأراضي والشكاوى على المستوطنين قانونيًا، فإن المزارعين يشتكون من غياب الدعم "بتنا بلد منكوب بامتياز، لا أحد يستطيع الوقوف بجانبنا من الداخل والخارج، بعض مؤسسات الأمم المتحدة مثل "أوتشا" تواصلت لطلب بيانات، لكنها لم تقدّم شيئًا بعد"، يقول القب. فيما يبدو أن الخسائر "تُقدّر بالملايين" وفق عاهد زنابيط مدير فرع الإغاثة الزراعية في شمال الضفة الغربية، مؤكدًا أن موسم التين مصدر دخل البلدة الرئيس.
"نحاول رصد الخسائر والانتهاكات التي يتعرض لها المزارعون بالمحافظات كلها، وفي طولكرم هناك دمار مهول وخسائر كبيرة جدًا سواء في سهل شويكة أو الشعرواية أو رامين والمناطق المجاورة للمستوطنات" يوضح زنابيط، الذي نوّه بأن عودة الأمور للسابق لن تمكّن من احترقت أراضيهم من الاستفادة منها، لأن ما فيها حرق وجرّف.
يذكر أن الاحتلال صادر حوالي 1500 دونم من الأراضي الواقعة غرب رامين، والمحاذية لمستوطنة عناب منذ الثمانينات، وشقّ فيها فجأة شارعًا بطول 6 كيلومترات منذ أسابيع، وخلال الليل وفق أهالي البلدة، التي لم تخل ومحيطها من عمليات إطلاق نار صوب المستوطنين.
ويشبه حال رامين عشرات القرى بالضفة الغربية التي تعاني نتيجة اعتداءات المستوطنين وهيمنتهم؛ للاستيلاء على أوسع رقعة منها وطرد الفلسطينيين، ضمن الإبادة التي تنفذها إسرائيل في غزة وبقية فلسطين التاريخية منذ أشهر.