هل تفنى المشاعر بعد الموت؟ أين يذهب الحب الذي كان يسكن قلب أحدهم؟ الحب الذي كان يسبب له تسارعًا في نبضات القلب، وتعرُّقًا للجسد وتعثرًا بالكلام. هذا الحب كان يبدو له وقتها كطاقة هائلة تسيطر على جسده وروحه، والطاقة وفقًا لقوانين الفيزياء لا تفنى ولا تستحدث، وإنّما تتحوّل من شكل إلى آخر. والحب طاقة، أليس كذلك أيها الحب؟
على قلب الحُب الذي نضعه على صور الشهداء أن يكون حقيقيًا.. وماذا عنهم؟ هل يتمنوّن منّا شيئًا آخر؟!
ماذا يحصل بالحب بعد موت صاحبه؟ لا بُدّ أنّه يتحول إلى شيء ما ولكن ما هو؟ ولو أمكننا أن نتخيّل أنّ حُب الموتى للأحياء سيظل حولهم كغيمة مثلًا، إذًا ستحظى الدول التي تعيش الحروب بكتل هائلة من غيوم المشاعر التي تركها الشهداء. ولو تمكّن العلم من رصد هذه المشاعر وتحليلها فتخيّل كمّ القبلات والأحضان وكلمات الحب التي يحملها الموتى للأحياء، ولا يستطيعون منحهم إيّاها!
العلم لا يقول الحقيقة دائمًا، أو على الأقل لا يُقدّم لنا ما نريد أن نسمعه، لذلك نلجأ إلى الميتافيزيقا عندما يتعلق الأمر بالموتى. إذا حلمت بشخص ميّت فقد يخبرك العلم مثلًا أنّ ما تحلم به في ليلًا، هو مجرّد انعكاس لما يشغل بالك نهارًا، ولأنّ هذا التفسير البارد لا يتناسب مع اللهفة لأي تواصل مع الموتى، فسترى أكثر الذين كسرهم الموت يهلعون إلى كتب التفسيرات أو العرّافين، ليفهموا ماذا أراد الميت أن يقول لهم، وماذا عليهم أن يفعلوا حتى يزورهم في حلمهم مرّة أخرى.
تختلف معتقدات الناس حول ماذا يحصل للإنسان بعد الموت، ولكن ورغم اختلاف هذه المعتقدات إلا أنّ أغلبها يتفق على أنّ الإنسان سيمتلك قدرات مختلفة بمجرّد موته، حيث تعيش الروح بعد تخلصها من الجسد في عالم أوسع من عالمها القديم، الذي ما يزال الأحياء عالقون فيه. فالأموات يرون أكثر، ويتحرّكون بشكل أسرع من الأحياء، وكما تقول بعض الروايات فإنّ الميّت يرى الحيّ، بينما يعجز الأخير عن ذلك.
منذ فترة، أضاف "فيسبوك" أزرارًا تفاعلية جديدة للتعبير عن رأيك ومشاعرك حول ما يحدث في العالم، فوسائل التواصل الاجتماعي تحاول دائمًا أن تكون حقيقية أكثر، ومعبّرة أكثر عن مشاعر الناس لعلّ لعنة الافتراضي تتركها وشأنها، فهذه المواقع لم تعد افتراضية حقًّا كما يتهمها الكثيرون، بل أصبحت مكانًا لحدوث المعجزات: فرص عمل جيّدة، علاقات عاطفية جديّة، التخطيط للثورات أو إفشال انقلابات، كما قد تكون هذه الوسائل الافتراضية سببًا في بقاء حقيقي في السجن لسنوات طويلة، بالإضافة إلى أنّ الناس يمكنهم الآن أن يفوزوا بجوائز قيمة بمجرد مشاركتهم منشورًا على حسابهم الخاص. فأين الافتراضية من كُلّ هذا؟! أين الموتى من كلّ هذا؟
حتى وإن كان الموتى يشعرون بحُبّ الناس لهم كما تقول الروايات الدينيّة. فإنّه لا يمكن الجزم بأنّ إشعارات حُبّنا وحزننا على صورهم المنشورة عبر الفيسبوك ستصلهم. وإذا قمنا باستطلاع قد يجيب الكثيرون بأنهم لا يعلمون إذا كانت قلوب الحب التي يضعونها على صور الشهداء تصلهم حقًّا، ولكنهم سيستمرون بوضعها لاحقًا، وقد يصفون بأنفسهم سلوكهم بأنه سلوك أناني يهدف إلى إراحة قلوبهم من خلال وضعها على صورة شهيد يعجزون عن تقديم أيّ شيء حقيقيّ له بعد أن حسم أمره وانقضت أيامه.
إننا نشعر بتأنيب ضمير هائل لأننا ما نزال هُنا بينما يقتل أناس بسبب قضية يفترض أنها قضيتنا جميعًا، وعلينا أن نحملها جميعًا وندفع ثمنها بالتساوي، بل ويبدو لنا وكأن الذين ماتوا أخذوا دورنا في الموت، بينما أخذنا نحن مكانهم في الحياة، وهذا وجع كبير ساعدنا الفيسبوك على التخفيف منه قليلًا، من خلال توفير مجموعة متنوّعة للتعبير عن مشاعر الحب، الحزن، والغضب.
قد يعجز الشهداء أن يردوا لنا قلوب الحب، ورغم أن قدراتهم على الرؤية والإحساس تفوق قدراتنا إلا أنهم عاجزون عن إرسال القلوب أو تبادل الحديث، ولكنهم قد يقدّروا لنا الثواني البسيطة التي نستغرقها خلال اختيارنا لشكل تأثرنا بموتهم. وهم يعلمون أن "اللايك" منّا هو الكثير من المشاعر المتناقضة، فنحن سعداء لأنّ موتهم يعني أننا أقوياء ومستمرون بالقتال دون يأس، وحزينون لأنهم ماتوا، وفخورون بهم أيضًا لأنهم ماتوا. أمّا قلب الحب فهو اختصار لكثير من الحب الحزين الذي بدأ بسبب الموت، والغضب هو الغضب لا تعريف له سوى أنّه على الأغلب التصريف الفعليّ لمشاعر الحزن.
المسافة الفاصلة بين الافتراضيّ والحقيقي مشوّشة جدًا، فمن الممكن أن نمارس حبًا حقيقيًا عبر واقع افتراضيّ، أما الحب الافتراضي فكثيرًا ما يتبادله الناس في مناسبات اجتماعية تحدث فعلًا. وبينما قد تبدو غيمة الحب التي يبقيها الشهداء حول أحبتهم شكلًا افتراضيًا متمنىً للحب بعد الموت، فعلى قلب الحب الذي نضعه على صور الشهداء أن يكون حقيقيًا جدًا وكأنه تحية تعارف لنسأل الشهداء بعدها وبكل جدية: هل تعجبكم مشاعرنا اتجاهكم أم تتمنون منًا شيئًا أخر؟!
اقرأ/ي أيضًا: