هذا المقال هو مقتطف من كتاب المفكر العربي عزمي بشارة "طروحات عن النهضة المعاقة"، الصادر سنة 2003 عن المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية – مواطن في رام الله فلسطين. (ص 217-220).
ــــــــــــــــ
كان الشكل الأول لحلول المشابَهة فينا، تحوّل الصراع ضد الصهيونية إلى تنافس مع إسرائيل: تنافس على الاعتراف الدولي وتنافس على من هو الأكثر ديمقراطية، وتنافس على الإنسانية والثقافة. وفي سياقات في غير صالحنا، مثل الديمقراطية والثقافة، لا بد من استخدام المقارنات الانتقائية مثل عدد خريجي الجامعات، من دون الأخذ بعين الاعتبار كيف ولماذا وأين؟ أو استخدام الكذب الصريح من أجل الانتصار في المنافسة. وفي الطريق للتزوّد لهذه المنافسة خطابيا، تحولت لغة تنشد العدالة وترفض الظلم إلى لغة حقوقية تنشد الاعتراف من العالم ثم من إسرائيل.
وتحولت حركة التحرر الوطني إلى ما يشبه حركة التحرر من ناحية وما يشبه الدولة من ناحية أخرى، خاسرة بعض محاسن الأولى من دون اكتساب مزايا الثانية. وصار كياننا السياسي مزيجًا من الاثنتين، مشابهًا لكل منهما. ولأن منظمة التحرير الفلسطينية باتت تشبه حركة التحرر الوطني، فقد قامت بـ "ما يشبه الكفاح المسلح"، كأنها حركة تحرر وطني. ولكن البندقية ليست أداة نضال في "ما يشبه الكفاح المسلح" بل هي رمز. الكفاح المسلح لا يهدف إلى التحرير بل يرمز إليه، ولذلك فهو لم يكن استراتيجية بل أيدولوجية، ولم يعد وسيلة بل أصبح هدفًا أيدولوجيًّا بالأساس. وعندما ينقلب الكفاح المسلح هدفًا يصبح الناس وسيلة، وعندها لا يحصى قتلى الأعداء على ذاك الجانب من المتراس بل الشهداء على هذا الجانب، فهم الدليل على استمرار الكفاح.
تحولت حركة التحرر الوطني إلى ما يشبه حركة التحرر من ناحية وما يشبه الدولة من ناحية أخرى، خاسرة بعض محاسن الأولى من دون اكتساب مزايا الثانية
أصبح هدف العملية المسلحة هو العملية المسلحة، التي قد تقدم هدية بمناسبة "يوم الانطلاقة" أو في ذكرى "استشهاد أحد المناضلين" أو في "ذكرى وعد بلفور المشؤوم" قبل أن يسري عليه قانون التقادم كما سرى على غيره، ولم يعد أحد يذكره أو يستشهد لذكراه. وعندما تتحول العملية المسلحة إلى هدف بذاتها تصبح فيما بعد نوعًا من الشعائر والطقوس.
اقرأ/ي أيضا: عزمي بشارة: المدينة الغائبة
وفي مراحل انهيار حركة التحرر الوطني ما تلبث هذه الشعائر والطقوس أن تطور حياتها وقيمها الخاصة، لتتحول من جديد إلى أداة لمقاتلة المحتل عندما تنسد السبل في وجه الواقعين تحت الاحتلال. أداة استشهادية لا يدري المحتل لها جوابا، ولا يعرف الواقع تحت الاحتلال أن يسيطر عليها ضمن استراتيجية محددة: من هدف قائم بذاته، بغض النظر عن الوسيلة، إلى أداة قائمة بذاتها بغض النظر عن الهدف.
عندما بات الفلسطينيون يتنافسون مع إسرائيل بدلًا من الصراع ضد إسرائيل، صراع المستعمَرين ضد المستعمِرين، والفقر ضد الغنى، والعدل ضد الظلم، تحولت الحملة على الرأي العام إلى سباق مع إسرائيل على التمثيل الدبلوماسي، مع الفرق أن تمثيل إسرائيل تمثيل دولة، وتمثيل الفلسطينيين يرمز إلى الدولة، بسفارات وسفراء كأنه تمثيل دولة.
لكن المشابهات لا تتوقف عند حد، فقد دخلنا في سباق على التمثيل في المؤسسات الدولية، ثم ولجنا حمى الديمقراطية حينما "انتهى التاريخ" فأخذنا نصرّ على أننا أكثر ديمقراطية من إسرائيل حينًا، وأحيانًا نسيل ونذوب إزاء أصوات الاستحسان والإعجاب الأوروبي بالتوجهات الجديدة. ونؤكد أننا سوف نتعلم الديمقراطية من إسرائيل إذا لزم، ولتنزلق أوروبا ولتذب وتسقط كلها في البحر المتوسط إعجابًا. ومن أجل إثبات الديمقراطية حُولت محاصصة الفصائل إلى "ديمقراطية فلسطينية متميزة". وهكذا لم تعد التعددية مظهرًا من مظاهر الديمقراطية، بل باتت ترمز إليها، كأنها ديمقراطية.
والتقت هذه الرمزية الجديدة مع عشق الفلسطيني للرموز، أو لكل ما يرمز للوطن السليب: العلم رمز وهذا هو الأمر الطبيعي، لكن إعلان الاستقلال رمز، والشاعر رمز، والرئيس رمز، ليس رمز السياسية كما في بعض الدول بل رمزًا إلى وجود رئيس، كأنها دولة. التعددية ترمز إلى الديمقراطية والمؤسسات ترمز لوجود سلطة، والسلطة ترمز إلى الدولة، وبدل أن يكون الرمز دلالة على معناه يصبح دلالة على الشيء مباشرة.
وفُرضت علينا التماثلات فرضًا، ثم عشقناها، عندما طفق الغرب ثم إسرائيل، يبحث عن شركاء في الحوار الجاري بين الشمال والجنوب، وبين غرب المتوسط وشرقه، وبين العربي واليهود، وبين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولا يجري الحوار الجاري بين متساوين ومتماثلين، أو متكافئين (أليست هذه هي الكلمة؟) لكنه يفترض التكافؤ بموجب ما يليق سياسيًّا.
فُرضت علينا التماثلات فرضًا، ثم عشقناها، عندما طفق الغرب ثم إسرائيل، يبحث عن شركاء في الحوار الجاري بين العربي واليهود، وبين الإسرائيليين والفلسطينيين
صحيح أنه لا توجد في الواقع مراكز أبحاث متكافئة، ولا بأس بذلك فهذا أمر طبيعي، لكننا نختلق مراكز أبحاث "منزوعة الأبحاث" لغرض الحوار أو لغرض تلقي الدعم المخصص للأبحاث في ميزانيات الدول المانحة. وقد يقام مركز أبحاث لمجرد التوقيع على مشروع مشترك مع الإسرائيليين، لكي يكون هنالك شريك، والدعم الأوروبي للمشاريع المشتركة كان متوفرًا بعد أوسلو. ولا يتوقع الشريك الإسرائيلي أن تقدم في النهاية أبحاث فلسطينية تروي الرواية الفلسطينية عنا وعنهم، فكل ما يلزم هو التوقيع الفلسطيني على المشروع المشترك، ما يلزم هو الدلالة على المشاركة الفلسطينية، ومرة أخرى تطغى الدلالة على المدلول. ويلعب مركز الأبحاث الفلسطيني دور مركز الأبحاث والكاتب دور الكاتب، والشاعر دور الشاعر، وينفتح المجتمع الدولي أمام المثقف الفلسطيني، ليس نتيجة لتطوره المتدرج غير المتكافئ إلى العالمية كما تعرفها أوروبا، بل لأنه يلعب دور المثقف في الندوات والحوار والمشاريع المشتركة. باستطاعة الباحث الأوروبي أو الإسرائيلي أن يقدم مداخلة فلسفية أو تاريخية جافة، وما على الفلسطيني إلا أن يتحدث عن "تجربته الشخصية" كي يقبل في الصالون الأكاديمي. وما يلبث الفلسطيني أن ينتقل من لعب دور ذاته إلى لعب دور صورته التي ترسم في أذهان الأوروبيين أو الإسرائيليين أو التي نقلها إليه الإعلام كليّ القدرة.
تطغى الدلالات على المدلولات، وتكتسب حياة خاصة بها. وتكتسح التماثلات المؤسسات الفلسطينية، حاجزة تطورها، وذلك لأنها تلعب جميعًا، بوجه من الوجوه، دور ذاتها، فكأنها قامت لتراها الوفود الأجنبية، أو لتكون عنوانًا لتلقي الدعم وإيفاد الوفود، وقد لا تجد مؤسسة من توفده لأن كل من يفك الحرف فيها منشغل بتمثيل الشعب الفلسطيني في حدث ما.
لا ينطلق التطور العضوي بما يليق سياسيًّا في تصور الآخرين لنا، وفي تصورنا لأنفسنا، وإنما في الواقع على عواهنه وكوامنه. والواقع ليس متماثلًا بل مختلًفا، ملؤه المتناقضات. لكن مسيرة التماثلات الظافرة، والتي تصبغ كل شيء بلونها، لا تحجز التطور فحسب، وإنما تضيف مساهمتها لطمس الحدود بين المجالات.
والعقبة الكأداء أمام تطور العلم والفن والرياضة والصحة والبيئة هو الاحتلال، ثم طمس الحدود بينها الناجم عن تسيسها في مرحلة التحرر الوطني. فالفلسطيني عندما يتعلم "إنما هو يناضل" وعندما ينتج فنًا" إنما يساهم في حفظ الهوية الثقافية من الضياع" وعدما يمارس الرياضة "إنما يكتب سطرًا جديدًا في صراع شعبنا على البقاء" وعندما ينجب الأطفال "فإنه يسطر ملحمة" وهكذا!
والحقيقة أن هنالك نواة أصلية من الحقيقة في هذه التعابير باعتبار أنشطة البناء والصمود بغض النظر عن مجالاتها، تشكل نوعًا من صراع البقاء بالنسبة لشعب هدد مجرد وجوده كشعب. لكن هذه تنقلب إلى عكسها، أي تتحول إلى هدم وتخريب وإعاقة، إذا تم استخدام بعدها النضالي مبررًا لغياب المهنية أو لغياب التمييز بين المعايير المختلفة التي تميز وتخصص المجالات مقارنة ببعضها. وإذا تم اعتماد معايير مجالات النشاط الإنساني المختلفة من خارجها يصبح معيار العلم غير علمي، ومقياس الفن غير فني، ومقياس الصحة غير صحي.
هكذا تخسر المجالات المختلفة ذاتها وتذوب فيما يسمى مجازًا، السياسية المثقلة بتعابير مثل الالتزام بالقضية ورديفتها التعيينات السياسية في كافة المجالات وبناء على ولاءات. لكن السياسية تفقد ذاتها أيضًا ضمن هذه العملية، إذ تتحول إلى حالة بدائية من الولاء والنفعية ونظام المحاصصة، ويخترقها الكذب المبني على المنفعة المباشرة اختراقًا تامًا. يلتقي في كذب السياسة والحالة هذه، كذب المشابهات وخطاب الرمزية، وكذب نفي خصوصية المجالات المختلقة، وكذب المصالح والمنفعة.
اقرأ/ي أيضا:
عزمي بشارة.. تعرية ديمقراطية إسرائيل المتناقض