لا شيء أثقل من أن تختصر حياتك بأكملها في حقيبة صغيرة؛ أن يتقلّص كل ما يربطك بأرضك، ببيتك، بأحلامك، إلى أشياء قليلة تحملها فوق ظهرك كلّما رغب الاحتلال أن يقتصّ منك مُرغمًا إيّاك على معاودة الركض نزوحًا دون اتجاهٍ محدد وبلا سابق إنذار.
في غزة، لا يموت الأمل بتاتًا
"ماذا يمكنني أن أحمل معي؟" السؤال الأصعب على الإطلاق، يتكرر عشرات المرّات، يُطاردك في كل مرّة تقرر فيها إنقاذ روحك، فتهرب فزعًا من الموت الذي يتربّص بك منذ سنة كاملة، تفرُّ من جحيم العذاب أملًا في النجاة.
نجاةٌ مريرة، تسقطُ معها في مفاضلة قاسية، وإجابات كالعلقم، تعلق بين اختياراتٍ عسيرة، وحيرة شديدة، أخفّها بقاء الجسد، وأثقلها غياب الروح!
عليك الاختيار، هل تتشبثُ بالذكريات فتضيق مساحة الضروريات، أم العكس؟ وفي كل مرة يربكك القرار، لا متسع للوقت، الثواني هنا كسيفٍ مسلط على رقبتك تقرر فيها مصيرك، إما حياة أو موت.
تقفُ مذهولًا، مذعورًا، كل شيء أمامك، يُقسم عليكِ أن لا تتركه، يمدُّ يده إليك، يحفظُ حضورك، ألف عنايتك، شهِد تفاصيل حُبّك واهتمامك، اعتاد صوتك، احتوى آمالك، لم يخذلك يومًا، فلمِ تلقه اليوم إلى الذبول؟!
وحين تختار، أنت لا تنجو مطلقًا، بل تغرق أكثر، في كل محاولة تنكسر قطعة من روحك، ويتسرّب جزء من عقلك، يجتاحُك شعور بالغربة، مجهولٌ فيه عن نفسك، لا تدري من أنت، وكيف أصبحت؟ ولمَ عليك فعل ذلك؟ لا شيء منطقي، كل لحظة تقرّبك من الضياع والجنون، كيف للمرء أن يتعلّم حشر وطنه في حقيبة؟
- كيف لكلّ أحلامك التي كانت تمنحك صوت الحياة، أن تتحوّل لمجرد بقايا تجمعها يدٌ سريعةٌ في لحظة ما قبل الموت؟
- كيف اقتصر عامُك على قطعة ملابس، بعض المعلّبات، وبضع وثائق أساسية شهدت يومًا ما ولادتك ومحطّاتٍ من حياتك، والقليل من الصور التي تذكّرك في حياة ماضية ظننتها ستستمر؟
- كيف تبدّلت أولوياتك إلى رحلة بحثٍ شاقة عن أمتن الحقائب المدرسية بعد أن كان اختيار أجملها لأطفالك أحب الأفعال إليك؟
- كيف تحوّلت حقائب أطفالك المدرسية إلى بيتك بالكامل، فيها الطعام والشراب والملابس، وليلًا تستخدمها كوسادةٍ أو جدار عازل تختبئ خلفها لتواري حزنك في يومك الثقيل؟
تحاول الهروب من كل شيء، لكن عبثًا تحاول، في لحظةٍ ما، ينقضُّ عليك العتاب، ويقتصُّ منك الغياب الطويل، فينبّش عليك شعور اللحظة الأخيرة، حينما لوحتَ لأماكنك المألوفة، لجدران بيتك الدافئ، لكوبك المفضّل، لركنك الهادئ، لصورة معلّقة تحتوي حبك، لسريرك الذي شهد أحلامك، لصندوق أودعته تذكارات أحبابك.
لقد أغلقت البابَ آنذاك على كل شيء، تركت روحك تسري فيها، استودعتها علّ القدر يجعل القرب من نصيبكما، لكن لم يحدث ما أملته، ذهب كل شيء وبقي وحده المفتاح الذي سيذكّرك يومًا ما "بما كنتَ عليه".
مع كل نزوحٍ سيتقلص حدود وطنك أكثر
لن يتِرَك الحزن مطلقًا، أصبحتَ شِقّه، ففي كل مرة سينهش منك المزيد، ومع كل نزوحٍ سيتقلص حدود وطنك أكثر، في البداية، تظن أن الهجرة إلى مكان جديد تعني بداية جديدة، لكن مع مرور الوقت، تصبح الذكريات التي كنت تحملها في حقيبتك بقايا من ماضٍ يبتعد عنك رويدًا رويدًا ليصبح مجرّد ذكرى، لا تسنح لك الحرب حتى التعبير عن افتقاده، لأن كل شيء هنا يُصادر أولًا بأول!
حتى الحقائب هنا انكمشت؛ كانت تحملها أيادٍ كثيرة وعائلات ممتدة، لكلٍ منها قصصها وحكاياها، لكنّها تسرّبت على الطرقات، وذُبح حاملوها، وانسكبتْ أحلامها، رحل الكثيرون، وبقي الناجون يواجهون وحش الخوف والجوع والخذلان والفقدان فرادى، وبعبء النزوح الثقيل طوال سنة كاملة.
سنةٌ بتمام حزنها، بكمال قهرها، أرخت عجافها على غزة، يتوارى الكلم من سوء ما حلّ بها، يتسيّدُ فيها أوج الوجع.
يسير أهلها وفوق أكتافهم نزفُ المدينة، وفي قلوبهم أصوات من فقدوا، تصفعهم رياح الحرب العاتية، تدفعهم للاستسلام، بينما أرواحهم تنظرُ للخلف، تمسك بتلابيب الأمل الذي يبقيهم على قيد الحياة.
محاولات عسيرة، تشهد كلها على سعيك للتشبث في أرضك أكثر، تُحارب تآكل هويتك، وانتزاع جذورك
محاولات عسيرة، تشهد كلها على سعيك للتشبث في أرضك أكثر، تُحارب تآكل هويتك، وانتزاع جذورك، تقذف فيها يأسك بعيدًا، وتُشرع قلبك لأي أملٍ بسيط يتسلل إليه لتقف أصلب، مهما كان وقوفك وحيدًا.
في غزة، لا يموت الأمل بتاتًا، يتوارى خلف ستار الحزن حينًا، لكننا نتشبّث به كما يتشبّث الطفل بثوب أمه، نمسك به جيّدًا، ندرك أنه ربما يبتعد أحيانًا، لكنّه لا يختفي أبدًا، نسقيه بالتمنّي والانتظار، علّ الجراح تلتئم يومًا، وتُفتح الحقائب لمرةٍ أخيرة!