لطالما كانت بلاد الشام - وفلسطين تحديدًا - محط أنظار الشرق والغرب، فالتاريخ الذي حصدته من تعاقب الحضارات والأديان عليها جعلها قبلة المستشرقين الذين شدوا رحالهم إلى هذه المنطقة ليكتبوا فيما بعد عن ما رأوه. فماذا كتب هؤلاء المستشرقون عن المدن الفلسطينية؟ وما الذي جذب أنظارهم إلى هذا المكان المقدس؟
يقول الكاتب المؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر في كتابه "تاريخ مخطوطات فلسطين"، أن "حركات الاستشراق في فلسطين والشام لم تظهر بصورة جلية إلا في فترة التاريخ الحديث، وأن الاستشراق الحقيقي جاء بعد ظهور النهضة الأوروبية".
اتخذت حركة الاستشراق في الشام أوجهًا متنوعة، ونظرتهم لفلسطين كانت بمجملها ذات فكرة رجعية
ورغم اختلاف المستشرقين في أعمالهم على كيفية عكس مرآة فلسطين؛ إلا أن جزءًا كبيرًا منهم صورها باعتبارها جماعات بدوية، أو فلاحية زراعية، أو مدنية متخلفة، وبمجملها ذات فكرة رجعية، وهذا ما كان يتنافى مع الحقيقة، وقد أبرزه كُتاب في التاريخ المعاصر، وحاولوا تصحيح وكشف هذا الزيف مثل الدكتور إدوارد سعيد.
اقرأ/ي أيضًا: ما هي أحوال سينما فلسطين بعد 9 عقود من ولادتها؟
اتخذت حركة الاستشراق في بلاد الشام عامة وفلسطين خاصة أشكالًا وأوجهًا متنوعة، ويرى أبو النصر أن أبرز هذه الأشكال هي:
الشكل الفكري الكتابي: برز كُتاب مستشرقون اهتموا مبكرًا بثقافة العرب ولغتهم وثقافتهم وسياستهم.. إلخ، رغم أن هناك حذرًا من تناول بعضها لما تحمله من أفكار مغلوطة تجاه العرب وحكم ظاهري مطلق، إذ ظهرت عدة أسماء لكتاب مستشرقين ارتبط اسمهم بالتاريخ الفلسطيني المكتوب، أمثال المستشرق النمساوي أشتين شينرد، والإنجليزي بالمر، وغيرهما الكثير.
كما دونت الإنجليزية ماري إليزا روجرز رحلاتها في فلسطين أثناء مرافقتها لشقيقها الديبلوماسي، ما بين عامي 1855-1859، في كتاب اسمه "الحياة في بيوت فلسطين"، عبر فعل ممارسة الاحتكاك المباشر مع سكان المنطقة، ومحاولة التعرف عليهم عن كثب، لكن كان يُلاحظ على كتابها التعاطف الديني مع اليهود.
الشكل الفني الرسوماتي الفوتوغرافي: أخذت المساحة الأكبر لدى المستشرقين، وشكلت توثيقًا للحقب التي مرت على بلاد الشام، وهي محفوظة الآن في متاحف أوروبا والغرب، كلوحة المسجد الأموي في دمشق ولوحة المسجد الأقصى في القدس.
واحتلت فلسطين المساحة الكبرى من حيث عدد اللوحات التي رسمها كبار الفنانين، وصوروا فيها الأغوار والقدس وبيت لحم والناصرة وأريحا وبيت جبرين، وأبرزها مطبوعة للرسام "براوت" التي يظهر فيها محراب المسجد العمري في القدس؛ المأخوذة من مخطوط (كاثروود) في عام 1835.
احتلت فلسطين المساحة الكبرى من حيث عدد اللوحات التي رسمها كبار الفنانين المستشرقين
وقد قام الرسام الإنجليزي ديفيد روبرتس (1796-1894) برسم لوحات تفصيلية عن أراضي الناصرة وعكا ونهر الأردن وكنائس بيت لحم والقدس ونابلس. وكذلك الألماني باورنفنيد غوستاف (1848-1904) الذي رسم الأماكن المقدس زمن العثمانيين، لكنهم حاولوا إدراج مصطلح "هيكل سليمان" المزعوم في توثيقهم، لكن لم يوجد دليل على ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: كيف تطورت الأغنية الفلسطينية في قلب الأغنية الشعبية؟
في عام 2013، أقام مركز بيت المقدس للدراسات الفلسطينية معرضًا في غزة للوحات نادرة للمستشرقين حول الأقصى والكنائس في مدينة بيت لحم، وإبراز جوانب من الحياة الفلسطينية في القرون الماضية، وتجسد الطابع التاريخي لفلسطين ومدنها وأجواء الحياة السياسية والاقتصادية والجغرافية والدينية فيها، بالإضافة إلى مكانتها الحضارية.
لجأ المستشرقون للصور الفوتوغرافية، كذاكرة بصرية لهم في رسومهم المستقبلية عن الشرق، وفق ما ذكر أبو ناصر. وظهر المصورون الشباب الجدد ليكملوا المسيرة بعد عام 1890، مثل أنتوان جسين ورافائيل سافينياك، وقد شكَّلا 80% من مجموع الصور القديمة والنادرة لفلسطين، وركزا على أسوار القدس والحرم الشريف وساحته منذ عام 1904 حتى عام 1917.
يُعتبر كتاب "المستشرقون" لكريستيان دافيس واحدًا من أهم الكتب التي تناولت الاستشراق، ويعتبره الباحثون والمستشرقون ردًا حاسمًا على أفكار الراحل إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق".
الاستشراق في وجهة نظر إدوارد سعيد
يعتبر المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أن الاستشراق "ليس مجرد موضوع أو ميدان سياسي ينعكس بصورة سلبية في الثقافة، البحث، والمؤسسات؛ كما أنه ليس مجموعة كبيرة ومنتشرة من النصوص حول الشرق؛ كما أنه ليس معبرًا عن، وممثلاً لمؤامرة إمبريالية غربية شنيعة لإبقاء العالم الشرقي حيث هو. بل إنه، بالحري، توزيع للوعي الجغرا – سي (الجيو- بوليتيكي) إلى نصوص جمالية، وبحثية، واقتصادية، واجتماعية، وتاريخية، وفقه لغوية".
كما "وهو إحكام لا لتمييز جغرافي أساسي وحسب (العالم يتألف من نصفين غير متساويين، الشرق والغرب)، بل كذلك لسلسة كاملة من المصالح التي لا يقوم الاستشراق بخلقها فقط، بل بالمحافظة عليها أيضًا بوسائل كالاكتشاف البحثي، والاستباء بالفقه اللغوي، والتحليل النفسي، والوصف الطبيعي والاجتماعي؛ وهو إرادة، بدلاً من كونه تعبيرًا عن إرادة معينة أو نية كعينة لفهم ما هو، بوضوح، عالم مختلف أو بديل وطارئ والسيطرة عليه أحيانًا والتلاعب به، بل حتى ضمّه".
ويضيف سعيد "ليس في وسع إنسان يكتب عن الشرق، أو يفكر فيه، أو يمارس فعلاً متعلقًا به دون أن يأخذ بعين الاعتبار الحدود المعوّقة التي فرضها الاستشراق على الفكر والفعل، وبكلمات أخرى، فإن الشرق، بسبب الاستشراق، لم يكن (وليس) موضوعًا حرًا للفكر أو العمل؛ ولا يعني هذا أن الاستشراق، بمفرده، يقرّر ويحتّم ما يمكن أن يقال عن الشرق، بل إنه يشكّل مجموعة المصالح الكلية التي يُستحضر تأثيرها بصورة لا مفرّ منها في كل مناسبة يكون فيها الشرق موضوعًا للنقاش".
ونتيجة لهذه الكتابات، لعبت هذه النظرة الاستشراقية دورًا هامًا في تشكيل جزء من التاريخ الفلسطيني والذاكرة الجماعية، إذ يُبين المؤرخ أبو النصر في هذا الشأن "أن المستشرقين منذ وصولهم لفلسطين خاصة بعد حملة نابليون على الشام 1799 ومصر 1798 حرصوا على البحث والتنقيب وتصوير فلسطين بعدة أشكال وأهمها الرسم كما ذكره في الكتاب؛ وبذلك شكلت هذه اللوحات وكتابات المستشرقين وثائق هامة ونادرة ودليلاً دامغًا على الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية خلال تلك الفترة".
المؤرخ حسام أبو النصر: إنتاج المستشرقين خدم الرواية الفلسطينية أكثر من الرواية الإسرائيلية
ويضيف لـ الترا فلسطين أن ذلك عكس ما أراده آخرون ومن جاء لفلسطين من مستشرقين، بعد إنشاء صندوق استكشاف فلسطين عام 1865؛ والذي سعى إلى تجيير أي مكتشفات لصالح ما ذُكر في التوراة لإثبات ما لم يثبت منه، ولكن الحقيقة أنهم فُضحوا باعتبار أن أغلب ما تركه المستشرقين يؤكد أن فلسطين كانت حضارة زاهرة ومتقدمة آنذاك وأنه لا يوجد ما يثبت الرواية الإسرائيلية سوى كتابات لبعضهم لم تثبتها المكتشفات ولا حتى الرسومات واللوحات المكتشفة أو المتبقية منذ ذلك العهد".
ويتابع المؤرخ أبو النصر، "وبالتالي فإن إنتاج المستشرقين خدم الرواية الفلسطينية أكثر من الرواية الإسرائيلية ووثق الحياة في تلك الحقبة عكس ما أراده باحثون آخرون".
ويختتم أبو النصر حديثه، "الآن مجمل أعمال المستشرقين موزعة في دول العالم وتركت بصمة وصورة لفلسطين في متاحف العالم تؤكد على الوجود الفلسطيني وحضوره العالمي، وأصبحت مرجعًا هامًا لجميع المهتمين والمختصين والباحثين عن هذا التاريخ". وبذلك فإن هذه الأعمال حاضرة في متاحف العواصم الأوروبية اليوم، كشاهد على التاريخ العريق لفلسطين ومدنها وذلك بالرغم من بعض المصادر التاريخية التي حاولت أن تدثر جزءًا من الحقيقة.
اقرأ/ي أيضًا:
الدبكة والدحية.. عبادة واستسقاء