07-أكتوبر-2024
مدير مجمّع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية

(ultrapal) مدير مجمّع الشفاء الطبي محمد أبو سلمية وتفاصيل سنة من الحرب

"لن نترك المستشفى، وهناك مريضٌ واحدٌ بحاجة إلى رعاية"، كان هذا ردُّ الطبيب محمد أبو سلمية، مدير مجمّع الشفاء الطبي في مدينة غزة، على اتصال ضابط في جيش الاحتلال طالبه بإخلاء كافة الطواقم الطبيّة والمرضى من المستشفى، بعد إحكام الدبابات الإسرائيلية حصارها للمجمّع الطبي الأكبر في قطاع غزة، يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، فيما عُرف بـ"الاقتحام الأول للشفاء"، والذي تبعه اقتحام آخر دمّر المجمّع الطبي.

مع مرور سنة على الحرب، يستذكر الطبيب محمد أبو سلمية اللحظات الصّعبة التي عايشها لحظة الاقتحام الإسرائيلي لمجمّع الشفاء الطبي بغزة، حين شعر بقرب الموت منه، وأوجاع رحلة الاعتقال، وإلى أن "سكنت روحه" لحظة الحرية.

ومع مرور سنة قاسية على بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة يوم السّابع من تشرين الأول/أكتوبر، يروي الطبيب محمد أبو سلمية لـ "الترا فلسطين"، الأوقات العصيبة للحصار الإسرائيلي لمستشفى الشفاء قبل اقتحامه، وإخلاء المرضى والطواقم الطبية والعائلات النازحة منه بالكامل، وصولًا للحظة اعتقاله، وما تبعها من عمليات تعذيب تعرّض لها، وأوصلته لحافّة الموت.

حصار المستشفى

يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، قصفت طائرات الاحتلال قسمي الولادة والعيادة الخارجية في مستشفى الشفاء، ما دفع آلاف النازحين والمرضى للفرار، وبقي نحو خمسة آلاف نازح من أصل 60 ألفًا، وقرابة 300 مريض برفقة الطاقم الطبي، وبعد يومين كانت الآليات العسكرية الإسرائيليّة تُطبق الحصار على المستشفى.

يقول الطبيب أبو سلمية إنّ الطائرات المُسيّرة "الكواد كابتر" كانت تحوم في أجواء المستشفى وتطلق النار على كل شخص يتحرّك بين الأقسام، وقد استشهد عددٌ من أفراد الطواقم الطبيّة، كما انقطع التيار الكهربائي وتوقّفت محطة الأكسجين عن العمل، وإثر ذلك استشهد جميع من كانو داخل أقسام العناية المُركّزة، كما توفي كل من كان موصولًا بجهاز التنفُّس الصناعي.

أيضًا، قسم الحضانة كان فيه 45 طفلًا من الأطفال الخدّج، توفي منهم 11 طفلًا. يقول مدير مجمّع الشفاء الطبي وهو يسترجع ذكريات ما جرى حينها: "كُنّا في تلك اللحظة في حالة عجزٍ عن تقديم أي خدمة للمرضى والمصابين، وصار الأطفال يتوفون أمامنا واحدًا تلو الآخر".

في تلك الأجواء الصعبة، وصل خبرٌ إلى أبو سلمية أنّ امرأة نازحة في مدينة حمد بخانيونس استشهدت هي وأطفالها الأربعة. اعتقد الطبيب الذي لم يزر بيته لدقيقة واحدة منذ بدء الحرب، ولم يشاهد عائلته سوى دقائق في المستشفى قبل نزوحها إلى جنوب القطاع، أنّ عائلته هي المستهدفة، لأنها نزحت إلى ذات المنطقة. يقول إنّه دخل يومها في حالة صعبة، ولم يستطع أن يطمئن عليهم، فخطوط الاتصال كانت متعطلة وقتها، وقد ظلّ على هذه الحالة إلى أن أعلمه أحد أصدقائه بأنّ عائلته بخير، قبل ساعتين من اعتقاله.

وفي اليوم الذي سبق اقتحام الدبابات لحرم مجمّع الشفاء الطبي، تلقّى أبو سلمية اتصالًا من ضابط إسرائيلي يطالبه بإخلاء كافة الطواقم الطبية والمرضى والنازحين من داخل المستشفى. غير أنّه ردّ على الضابط الإسرائيلي، بالقول: "لن نترك المستشفى، وهناك مريضٌ واحدٌ بحاجة رعاية".

يقول أبو سلمية: أخبرتُ العائلات النازحة بأنّ الجيش الإسرائيليّ خصص "شارع الوحدة" وصولًا إلى "شارع صلاح الدين" كـ "طريق آمن"، وقد خرج من بقي من النازحين الخمسة آلاف نازح ومعهم أعداد من المرضى، وبقيتُ أنا و13 من الطواقم الطبية فقط، لنخدم أكثر من 300 مريض لا يستطيعون الحركة، و27 مريض غسيل كلى، والأطفال الخدج في الحضانة.

داخل المستشفى "كان الوضعُ كارثيًا، وغير مسبوق" كما يصفه أبو سلمية، الذي يشير إلى أنّ رائحة الموت كانت تفوح من أقسام المستشفى، وتوفي كثير من المرضى وكبار السن وهم على الأسرّة. نحو 220 جثة كانت منتشرة في زوايا المستشفى دون أن تجد من يدفنها، إلى أن قُمنا "على عاتقنا الشخصي بحفر قبور جماعية في حديقة المستشفى لدفن الجثث التي بدأت التعفُّن، وتمكنّا من دفن 80 جثة، تحت تهديد الطائرات المُسيّرة، وقد أصيب عدد من الطواقم أثناء العملية".

بعد ذلك، كما يقول أبو سلمية، اقتحمت الدبابات المستشفى من الجهة الشمالية، دون أن يُطلق عليهم طلقة واحدة من داخل المجمع الذي صوّره الاحتلال كأنه "قاعدة عسكرية"، ثُمّ تواصل معي ضابط إسرائيلي وطلبت منه كقوة احتلال للمستشفى، توفير الماء والطعام للمرضى والطواقم الطبية الذين لم يكن لديهم أي شيء ليأكلوه منذ أيام، كما طلبت منه إحضار مركبات إسعاف لإخلاء الأطفال الخدّج الذين أصبحوا يموتون واحدًا تلو الآخر، قبل أن يتم استجوابي لمرتين داخل غرفة مغلقة بالمستشفى صاحبها صراخ وشتائم وضرب.

الإخلاء الكامل

في اليوم الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أبلغ جيش الاحتلال الطبيب أبو سلمية بأنه سيسمح بمرور 20 مركبة إسعاف وأربع مركبات إخلاء لجميع المرضى الذين لا يستطيعون الحركة، لكنّ المركبات لم تتسع للجميع وبقي قرابة 100 مريض. يقول أبو سلمية: عندما سألت الضابط عنهم، قال إنه "سيقوم بإجلائهم بطريقته الخاصة".

ويضيف: انطلقت القافلة من "شارع الوحدة" إلى "شارع صلاح الدين" حيث الحاجز العسكري الفاصل بين شمال وجنوب قطاع غزة، وكان برفقتنا مراقبين من منظمة الصحة العالمية ووكالة الأونروا، وعندما وصلنا الحاجز لم يسمح لنا بالعبور، وبقينا 9 ساعات عالقين داخل مركبات الإسعاف، ولم يكن يسمح للمرضى بالنزول لقضاء حاجتهم، لقد كانت ساعات قاسية جدًا، خاصة أن مركبات الإسعاف مزدحمة، وكان المرضى يقضون حاجتهم داخل زجاجة بلاستيكية.

رحلة الاعتقال

ويتابع أبو سلمية: في تمام الـ12 منتصف الليل سُمح لنا بالمرور، وقد طلب الجنود من الجميع التعريف بأسمائهم، وعندما عرّفت عن نفسي طلبوا منّي الخروج من مركبة الإسعاف، والتوجّه خلف ساتر ترابي، وهناك تفاجأت بتوجيه 4 جنود فوهات بنادقهم نحوي مباشرة، وأبلغوني بأني معتقل، بعد أن جرّدوني من ملابسي، وقاموا بعصب عيني، وتكبيل يديّ خلف ظهري.

"بعد ذلك حولت للتحقيق داخل محور نتساريم، وكان التحقيق قاسيًا جدًا، تعرّضت خلاله للضرب بجميع أشكاله، ودسّ الجنود التراب في فمي، ووضعوه فوق رأسي، وذلك بعدما أخبرتهم بأني أدير مؤسسة صحية مدنيّة، وليس لديّ معلومات عن الفصائل في غزة".

ويواصل أبو سلمية حديثه، كنتُ جالسًا على الأرض، ومجرّدًا من الملابس أثناء فترة التحقيق، وكنت أسمع أصوات تعذيب المعتقلين الآخرين في المكان، قبل أن يتم نقلنا في شاحنة كبيرة وفي وضع مأساوي، حتى وصلنا لمنطقة لا نعرفها، وهناك تمّت المناداة على اسمي، ونقلت لوحدي مباشرة إلى سجن عسقلان، مقيّد اليدين، معصوب العينين، ومربوطًا بسلسلة بين قدمي.

سجن عسقلان

"عندما وصلنا سجن عسقلان، تفاخر الجنود بأنهم أتوا بمدير مستشفى الشفاء"، ويقول أبو سلمية إنّهم وفي كل انتقال لسجن جديد كانوا يرددون نفس الأسطوانة، لأنهم سبق وروّجوا أن مستشفى الشفاء كان بمثابة قاعدة عسكرية للفصائل الفلسطينية، وبعد ذلك بدأ جهاز الشاباك جولة تحقيق معي استمرّت أسبوعين على نحو متواصل، و"كانت صعبة جدًا".

خلال التّحقيق كنت أتعرض للشبح 18 ساعة يوميًا على كرسيّ صغير، كما تعرّضت للضرب بمختلف أنواعه، وكان المحقق يكيل الشتائم لي ولأمي وأخواتي، وكان يُشعل المكيف على درجة تبريد منخفضة جدًا، وأنا داخل الزنزانة خلال فترة المربعانية، "كنت أرتجف من البرد الشديد؛ لأنه لم يكن لدي ملابس أو غطاء، وكنت أردد الشهادتين باستمرار".

سجن عوفر

ويتابع أبو سلمية: بعد شهر من التعذيب في سجن عسقلان نُقلت إلى سجن عوفر، وفي الطريق إلى هناك عرف الجنود من وحدة تسمى "النحشون" بأني مدير مستشفى الشفاء، فقاموا بضربي بقوة، وأصبت بعدة كسور في الأضلاع.

ويصف أبو سلمية سجن عوفر الذي أمضى فيه مدة شهرين، بأنّه سيء الصيت والسمعة، مشيرًا إلى أنه في أحد الأيام قُمع الأسرى في السجن، واعتدى عليه الجنود بالضرب المبرح فكسروا أصبعين من يده وشجّوا رأسه، وبدأت الدماء تسيل على وجهه، وبعدها قامت إدارة السجن بإطفاء الأنوار و"لم نكن نعرف ما يجري"، فمسحت الدماء في ملابسي التي لم أغيّرها منذ لحظة اعتقالي قبل 6 أشهر، ودخلت بعدها في حالة غياب عن الوعي لدقائق، وكانت هذه أقرب لحظة أشعر فيها بقربي من الاستشهاد.

ويواصل مدير مجمّع الشفاء الطبيّ سرد تفاصيل ما جرى معه بالقول: "كُنّا في سجن عوفر نتعرّض للقمع والضرب على مدار الساعة، كان السجانون يعدّون الأسرى ثلاث مرّات يوميًا، وفي كل مرة كانوا يعتدون علينا بكافة أنواع الضرب، وكانت الكلاب البوليسية تهاجمنا".

ويضيف: كُنّا 12 أسيرًا داخل الغرفة الواحدة، وكان في الغرفة 6 أسرّة حديديّة، كُنّا نتناوب النوم عليها، وكان السّجان يسلّمنا غطاءً واحدًا لكل شخص، وذلك في تمام منتصف الليل، ويأخذه عند السّاعة الرابعة فجرًا.

"بعد شهرين من الجحيم في سجن عوفر"، نُقلت إلى سجن نفحة الصحراوي، وهناك واجهنا نفس أساليب الضرب على مدار الساعة، وعُرضت على محكمة، حينها قال لي القاضي الإسرائيلي: "لا يوجد بحقِّك لائحة اتّهام، أنت موقوف لوقت غير معلوم"، ثم سألته: "لماذا يستمر اعتقالي طالما لا يوجد لائحة اتهام بحقّي؟"، فرد عليّ: "هذا مش شغلك، هذا شغل جهاز المخابرات".

لحظة الإفراج

وعن لحظة الإفراج، يقول الطبيب أبو سلمية: تمّت المناداة علينا ونحن داخل الزنازين، مساء يوم 30 حزيران/يونيو 2024، وطلب منّا أحد الجنود إحضار ملابسنا المدنيّة، فقلنا لهم لا يوجد لدينا ملابس مدنيّة، ولحظتها انتابني الشك بأنه سيتم الإفراج عنّا. ثم التقيت نائب مدير السجن ولحظتها طلب منّي التوقيع على ورقة، فسألته عن فحواها، فقال: "ستخرج إلى غزة".

كان شعورًا ممزوجًا بكل شيء؛ سعادة وفرح وألم وعدم تصديق، وبقيت في حالة شكّ حتى نُقلت مع قرابة 50 أسيرًا، إلى معسكر اعتقال سديه تيمان، الذي وصلناه عند الساعة الرابعة فجرًا. في الطريق تعرضنا لضرب مبرح، وعندما وصلنا المعسكر تعرّضنا كذلك للضرب والإهانة، قبل أن ننقل إلى "معبر صوفا" شرق رفح، وهناك فُكّت القيود من أيدينا ورفعت العصبات عن أعيينا، وطلب منّا الجنود التوجّه غربًا دون الالتفات للخلف.

لقاء العائلة

استمرينا في المشي رغم الآلام التي نعاني منها، حتى وصلنا "شارع صلاح الدين"، وهناك قابلت أحد المواطنين واتصلت من هاتفه على الهلال الأحمر الفلسطيني، وجاءت مركبات الإسعاف ونقلتني مع بقيّة الأسرى المفرج عنهم إلى مجمّع ناصر الطبي في خانيونس.

وعن لقائه الأوّل بعائلته بعد الإفراج عنه، يقول أبو سلمية: عندما وصلت مستشفى ناصر وجدت صديقًا يعرف العائلة وسألته عنهم، فقال إنهم بخير ولحظتها "سكنت روحي"، ثم اتصل وكيل وزارة الصحة على العائلة هاتفيًا وأخبرهم بأني بخير وسمعت صراخهم من الفرحة، ثم تحدّثت معهم، قبل أن يتوجهوا للمستشفى ونلتقي وجهًا لوجه في لحظة كانت مليئة بالفرح والدموع والدفء.