لم تكن اللوحات الإعلانية في طرقات وشوارع غزة يومًا، تؤدي دورًا واحدًا، فتارة تشعر أنها تقوم بدور الناطق باسم المقاومة، وأحيانًا القائم بمهام "وزارة الخارجية" حيث رسالتنا إلى العالم، بينما تراها تارة أخرى مندوبًا لماركات تجارية عالمية، ليس آخرها "المكياج والعطور والملابس".
لوحات إعلانية تتنوع بين رسائل المقاومة وإعلاناتٍ وحتى هدايا شخصيةٍ يمكن أن تجدها حيث تدير وجهك في قطاع غزة
على الطرقات، المفترقات، التفافات الشوارع، مداخل المدن والأحياء وحيطان الجامعات والمؤسسات وواجهة العمارات المطلة على الشوارع الرئيسة كذلك، جميعها دون استثناء، تبدو مادة للتداول، يشمل أحدها إعلانًا للمقاومة، بينما على اللوحة المقابلة، تتمدد فتاة تغمض عينيها لتري المشاهدين تأثير "الماسكارا".
لوحات مثيرة
العديد من اللوحات التي أثارت الجدل مؤخرًا، تقدمت فيها حركة "حماس" برسائل سياسية حيث اعتمدت سياسة "الشكر" أحيانًا لإيران وتركيا وقطر، إضافة إلى نصب تصميمات للمقاومة والكوماندوز البحري والأسرى في سجون الاحتلال، التي تدفع الأمل بصفقة قريبة مع جنود الاحتلال المخطوفين لدى المقاومة بغزة.
ولوحظ عليها التماشي مع التغيّرات الدولية، واستخدام الإعلانات بأسلوب المباركات والدعم، حيث رفعت صورًا لأردوغان بعد الانقلاب الفاشل مؤخرًا، قائلة إنها مع تركيا حكومة وشعبًا، بينما غطّت شعارًا للإخوان المسلمين أعلى لوحة لها بينما كانت تعقد لقاءات مع المخابرات المصرية بالقاهرة، كما هاجمت ذات مرة الرئيس محمود عباس ورئيس الوزراء رامي الحمد لله بدعوى تخليهم عن مسؤولياتهم بغزة.
إعلانات الحُب
في الذكرى الخامسة لزواجهما، وضعت الشاعرة سماح شمالي، صورة لزوجها على لوحة إعلانيّة في مكانٍ عامّ، وأهدتها إيّاه. لاحقًا أثار الأمر ضجة جميلة، وتساؤلات حول الموضوع.
تقول سماح إنّها كانت تتخوّف في البداية من رفض الشركة الإعلانيّة لفكرتها، خاصة أنّ أحدًا لم يسبقها لتنفيذها. لكنّ المختص بموضوع اللافتات، في تلك الشركة، تشجّع لتنفيذ الفكرة طالما "لا تخالف الآداب والأخلاق العامة"، كما تقول. وما كان عليها سوى اختيار مكان وموعد التنفيذ.
وفي معرض التفاصيل، تقول إنّها طلبت أن تكون المفاجأة في مكان ما، ضمن "لوحات السرايا" التي تقع وسط غزة، مثلًا، إلا أنّ الشركة ردت عليها في حينه أن هذه اللوحات لا يمكنها استخدامها فهي "مِلك الحكومة وحماس"، وهي لا تصلح للإعلانات العامة، وفقًا لشمالي.
لوحات لا تتنافى مع "الذوق العام"
مسؤول قسم الإعلانات في شركة "مشارق"، محمد الشرفا، قال لـ"ألترا فلسطين" إن الشركة تلبي رغبات الجمهور المعلِن بما لا يتنافى مع المظهر الاجتماعي العام والعرف والتقاليد، مضيفًا "لنا الحرية في اختيار الإعلان التجاري أو الفردي طالما لا يخالف"، بسعرٍ ثابت للمتر، حيث يتحدد سعر اللوحة ككل من مساحتها، مخصومًا منه سعر التصميم، وأن أقل مدة يمكن تأجيرها للمعلن هي شهر واحد بحيث لا يستطيع الإعلان لمدة أسبوعين فقط مثلًا.
اقرأ/ي أيضًا: "هبة القدس" على الحيز الإعلاني في فلسطين
أما فيما يختص بآلية الإعلانات، فقال إن البلدية تطرحُ عطاءات للوحات بأماكن محددة، ويتم اختيار الشركة الإعلانية المالكة حسب مناقصات الدفع، حيث يستمر الإيجار لمدة سنة واحدة من تاريخ إرساء العرض، ويمكنها استخدامها في نشر جميع الإعلانات الخاصة، و"الشركة تتكفل برسوم التركيب للحديد ونصب اللوحة".
وبحسب الشركة، فإن الإعلان يخضع لسياسة تحريرية كما شأن المواد الإعلامية، لكن سياسته يحددها المجتمع حول المقبول من عدمه، مشيرًا إلى أن "البلدية لا تتدخل بمحتوى الإعلان، حتى أنه من المسموح أن تعلن جهات سياسية على الأغلب في شوارع غزة".
مملكة الصفيح!
من ناحية أخرى، فان شركة "فلكس" كان لها رأيٌ مخالفٌ لما قالته "مشارق" حول تفاصيل الإعلانات في غزة، فحين لقاء "ألترا فلسطين" برئيس مجلس إدارتها عدلي نزال، تعرّض للعديد من التفاصيل والشكاوى حول البلديات بموضوع اللوحات الاعلانية.
وبحسب نزال، فان الشركات الإعلانية بغزة أدخلت "اللوحات الاعلانية" للسوق "على مضض"، نظرًا لأنها لا تحقق أرباحًا جيِّدة للشركة، حيث تكلفة إيجارها العالية من البلديات، وعدم وجودة مساحة كافية من الحريات إضافة إلى وجود لوحات خارج القانون قد تؤثر على سوق العمل.
تشتكي الشركات الإعلانية في غزة من التكلفة العالية التي تطلبها البلديات كإيجارات للوحات الإعلانية وتقول إنها لا تحقق أرباحًا جيدة
وأوضح أن آلية الإعلان تكون بتقدم الشركة الإعلانية بكتاب ومقترح للبلدية مرفقًا بخريطة وخطة، يطلب فيه نصب لوحة إعلانية في المنطقة "أ" على سبيل المثال، فتقوم البلدية بدورها بإرسال لجنة من المرور لفحص الموقع وصلاحيته، وفقًا لشروط عدة ثم تقرر بعدها الموافقة عليها وتأجيرها بتكلفة عالية.
اقرأ/ي أيضًا: غزة.. و"بديهيات الحب" في "حارة العبيد"
"أعلى من السعر المقرّ قانونيًا، تؤجر البلدية المتر الإعلاني للشركات" يقول نزال، حيث يؤثر ذلك على تدني أرباح الشركات من اللوحات الإعلانية ويجعلها سوقًا رديئًا لا يتم دخوله إلا لاعتبارات القوة "فعدد لوحات الشركة بالمنطقة يعطيها قوة ومنافسة"، مضيفًا "البلدية تؤجرنا المتر الإعلاني الواحد بـ250 شيكل، ما يعني أن 60% من الإيراد تحصله البلدية تقريبًا! هذا غير منطقي".
"وينص القانون الفلسطيني، في نظام اللوحات والإعلانات، أنه على الهيئات المحلية بما فيها وزارة الحكم المحلي والبلديات، تحصيل 30 دينار أردني/ 150 شيقلًا- مقابل المتر الإعلانيّ الواحد، الممنوح للشركات الإعلانية والجهات المعلنة لصالح عام كامل".
"مملكة الصفيح" وصف نزال مدينة غزة، بعدما رفعت الفصائل والأحزاب والمؤسسات الحكومية لوحات لها على الطرقات والمفترقات، وهي بكل الأحوال ليست مرخصة من البلديات وخارج إطار القانون، حيث لا يدفعون تعرفة أو إيجارًا لها طيلة تواجدها، وهذا يؤثر علينا سلبًا في سوق العمل، حيث يذهب كل فصيل إلى احتجاز أمكنة له ونصب لوحات خاصة، حتى وصل الأمر إلى إعلانات خاصة تتبع لفصائل معينة.
وبحسب مدير "فلكس"، فإن الشركات مجتمعة تقدمت بشكاوى ورفعت كتابًا إلى البلدية، لممارسة دورها في الحدّ من اللوحات العشوائية والحكومية غير المدفوعة، مضيفًا أن "المعلنين دومًا ما يتساءلون عن لوحات محجوزة للفصائل أو الحكومة، كلوحات مفترق السرايا وبعض المفترقات المميزة بالمدينة"، لكنّ البلدية لم تكن ترد على شكوانا حتى توصلت أخيرًا إلى منع اللوحات الفردية وهددت بفرض غرامة عليها، ومراجعة الحكومة في ذلك، كمحاولة "إسكات" للشركات.
وللتأكيد، فإن اعتراض الشركات لا ينبع من كونها تعارض لوحات حركة حماس كاتجاه سياسي، يقول نزال، إلّا أنّ هذه اللوحات تتداخل مع سوق الإعلانات بشكل كبير، وتحجز بشكل سلطوي أماكن لها في غزة تبث عبرها رسائلها دون مراعاة لاعتبارات أخرى، مضيفًا "عشر فصائل فلسطينية لو رفع كل منهم لافتاته ستصبح غزة مملكة الصفيح!".
وسبق أن عممّت بلدية غزة، على الشركات الإعلانية قرارًا تطالب فيه بالرجوع إلى البلديات للنظر في توجّه محتويات الإعلانات سواء كانت سياسية، أو تجارية قد تثير جدلًا كإعلانات التجميل النسائية والعطور على سبيل المثال للتأكد من ضمانها توجهات البلدية والمجتمع، وفقًا لشركة "فلكس".
القانون والحريات عند البلديات!
البلديات، أوضحت أن هناك نوعان في موضوع اللوحات الإعلانية منها من تعرضها البلدية ضمن مناقصات، بينما الأخرى مقترحات تقدمها الشركات للبلدية للموافقة عليها، وجميعها تخضع للقانون بحسب قولهم.
تعرض البلديات في غزة بعض اللوحات الإعلانية ضمن مناقصات، والأخرى تقدمها الشركات للبلديات للموافقة عليها في إطار القانون
يتم تأجير اللوحات للشركات لعام كامل بشرط ضمانها عدة مواصفات مرورية وهندسية. ويوضح المهندس حسين عودة، المسؤول عن ملف اللوحات الإعلانية ببلدية غزة، أنه يتوجب على اللوحة مراعاتها لحركة السير أمام الناس والمركبات، بحيث تكون في مكان مناسب يضمن عدم تشتت السائقين أو التأثير عليهم، وضمان عدم حجب الرؤية المرورية وأماكن الأشجار، كما يمنع وضعها داخل جزيرة مزروعة بشارع عام.
اقرأ/ي أيضًا: غزة تواجه التحذيرات الدولية من الكارثة باللامبالاة
وبالحديث عن شكاوى الشركات للبلديات، قال عودة لـ "ألترا فلسطين" إنهم تقدموا بشكوى حول لوحة نصبتها وزارة الثقافة دون ترخيص، إضافة إلى ثلاث لوحات بمحيط "دائرة المرور والترخيص" الخاصة بالمواصلات وقد راجعت البلديات الطرفين وحذرت من التجاوزات.
وفيما يتعلق بلوحات حركة حماس على مفترق السرايا وسط غزة، واللوحات الفصائلية الأخرى، قالت البلدية إن القانون الفلسطيني يكفل للفصائل الفلسطينية نصب لوحات إعلانية دون دفع تعرفة لوزارة الحكم المحلي أو البلديات، وهو ضمن الأطر الوطنية، ولا علاقة للبلدية بذلك، كما أن باقي الفصائل مسموح لها رفع لافتات لها كما تريد وقد يكون للمرجعيات الأمنيّة رأي آخر.
وأنكر عودة في حديثه، أن البلدية تأخذ أعلى من السعر القانوني، قائلًا "هناك فرق بين اللوحات العامة التي نطرحها والتي تقترحها الشركات، ونظام المناقصات لا يخضع للتعرفة القانونية لضمان الشفافية، حيث يبقى السعر هو الفيصل حين يسأل أحدهم "لماذا تأخذ شركة كذا اللوحة الفلانية المميزة، دونًا عن شركة كذا؟"
الجيـوب أعـلى من السـياسة!
بدورهما، اتفق الأستاذ الجامعي جمعة أبو العنين والخبير الاقتصادي ماهر الطباع على الجدوى الإعلانية في السوق الفلسطيني، حيث الأموال في جيوب البلديات، ولا غرابة في أن الشركات الإعلانية قد تكون متسببًا في دفع رواتب موظفي البلدية لشهور خلال العام.
وتسمى اللوحات الإعلانية بـ"الإعلانات خارج الأبواب" وتعتبر نوعًا ناجحًا حيث يلامس الجماهير المارة البسيطة حتى أنها تعتبر أنجع من الإعلانات الإلكترونية، وشروط نجاحها هو ملامستها لحاجات الناس وحياتهم وإثارة انتباههم بشكل لافت، حتى أن الاختلاف في نوعيتها وتوجهها يعتبر ظاهرة صحية بشرط مراعاة البعد الشرعي والاجتماعي وعدم استخدام المرأة إعلانيًا لإثارة الغرائز، كما ترفضه كل المدارس الاعلانية وتتغاضى عنه البلديات أحيانًا أمام المادة.
ويقول أبو العنين لـ "ألترا فلسطين" إنه يمكن غضّ الطرف عن اعتبارات معيّنة أمام لغة المادة، ولهذا قد نرى الإعلانات التجارية بجانب إعلانات المقاومة ولوحات حكومية بشكل مختلف في الشارع ذاته، مضيفًا "قدمت اللوحات الاعلانية بغزة نفسها كوكيل تجاري ناجح، كما أدت دور الإعلام الدولي حيث استغلته الحكومة والفصائل بإيصال رسائل سياسة للعالم مستغلة عولمة الاتصالات، ومنها احتفالات الشكر للدول المانحة".
ويراقب المارة في غزة، مستجدات اللوحات الاعلانية ومضمونها كل شهر أو أقل، بينما تكثر التساؤلات حول مرجعية الإعلانات، ومجاورة اللوحات التجارية بما فيها "مواد التجميل" للوحات المقاومة في المفترق ذاته، وهو ما يدفعهم للقول إن الجيوب تقابل السياسة" أحيانًا، فما هي اللوحة المقبلة؟ يتساءل غزّيون.
اقرأ/ي أيضًا: