يدور جدل منذ أيام حول حجم الدين العام على الحكومة الفلسطينية. فبينما ظهرت بيانات حكومية رسمية تقول إنّ الدين العام وصل إلى 11 مليار دولار، نُشرت تقارير صحفية مدعومة بمصادر مجهولة المصدر ترفض هذا الرقم، وتحصر الدين العام بأقل من 5 مليارات دولار، فما هي حقيقة هذا الدين؟ ولماذا هذا الاختلاف الكبير في الأرقام؟
أصل الخلاف حول حجم الدين العام يعود إلى مفهوم الدين العام ما بين التعريف المعتمد في قانون الدين العام رقم (24) لعام 2005، وبين اعتماد الالتزامات الحقيقية المستحقة على الحكومة
أصل الخلاف حول حجم الدين العام يعود إلى مفهوم "الدين العام" ما بين التعريف المعتمد في قانون الدين العام رقم (24) لعام 2005، وبين اعتماد الالتزامات الحقيقية المستحقة على الحكومة، فمناصرو اعتبار الدين العام بأنه لا يتجاوز 5 مليارات دولار، استندوا إلى ما ورد في هذا القانون، بينما ترى الحكومة الحالية ومؤسسات رقابية أنّ الاستحقاقات أكبر من ذلك بكثير.
يُعرف الدين العام في القانون بأنه "الرصيد القائم للالتزامات المالية الحكومية غير المسددة، والمترتب عليها دفعه تسديدًا لالتزاماتها". ويقسم الدين العام بموجب القانون إلى قسمين: الأول هو الدين الداخلي ويُعرف بأنه "الالتزامات المترتِّب على الحكومة دفعها تسديدًا للأموال التي اقترضتها بموجب سندات حكومية أو من بنوك محلية أو مؤسسات مالية محلية أو أخرى".
أما القسم الثاني فهو الدين العام الخارجي والذي يُعرف بأنه "الالتزامات المترتبة على الحكومة دفعها تسديدًا للأموال التي اقترضتها من الدول والهيئات والمؤسسات الدولية الخارجية بموجب القانون".
بموجب هذا المفهوم المستند إلى قانون مسنٍ في فلسطين، فإن الحكومة السابقة كانت تعتبر أن الدين العام هو ما اقترضته الحكومات المتعاقبة من مؤسسات تمويل داخلية وخارجية، إذ تبلغ قيمته فقط 3.85 مليار دولار، وهو عبارة عن الاقتراض من البنوك المحلية بقيمة 2.53 مليار دولار، ودين خارجي بقيمة 1.32 مليار دولار، بالإضافة إلى بعض مستحقات القطاع الخاص. وبموجب ذلك يتراوح الدين العام بين 4-5 مليارات دولار فقط.
وبموجب هذا التعريف وهذه القيمة لحجم الدين العام، يتم إنكار ثلاثة بنود أساسية كاستحقاقات مترتبة على السلطة الوطنية الفلسطينية، وهي: مستحقات الموظفين المتأخرة، وديون صندوق التقاعد الفلسطيني، وإجمالي الديون المرتبة لصالح الموردين والقطاع الخاص.
خطورة الدين العام تتمثل في أنه يوجه ضربة حقيقية لعصب الاقتصاد الفلسطيني
واطلع الترا فلسطين على تفاصيل هذه الالتزامات المرتبة على الحكومة استنادًا إلى البيانات الرسمية، بالإضافة إلى متابعين لتفاصيل الموازنة العامة التي يتضح من خلالها أن مجموع الديون المرتبة على الحكومة لا تقل بأي حال من الأحوال عن (9) مليارات دولار، وهي على النحو الآتي:
أولًا: ديون متراكمة لصالح صندوق هيئة التقاعد والمعاشات: هذه الديون متراكمة ومعقدة ومتداخلة وحتى قيمتها محل جدل وخلاف كبيرين، لكن الحكومة تقر بثلاثة مليارات دولار (الرقم قد يكون أكبر من ذلك)، وهي ديون ناجمة عن ثلاثة مسارات مختلفة، الأول، عدم تحويل الحكومة (لفترات متقطعة) لمساهمة الموظف في صندوق التقاعد والبالغة نحو 10% (كانت تدفع بطريقة غير منتظمة ولم تسدد بالكامل)، والثاني مساهمة الحكومة في صندوق التقاعد والبالغة 12% من نسبة الراتب (أيضًا تدفع على فترات متقطعة وبطريقة غير منتظمة ولم تسدد بالكامل)، والمسار الثالث أموال اقترضتها الحكومة منذ فترات طويلة وعلى عدة دفعات من صندوق هيئة التقاعد والمعاشات على شكل قروض لم تسدد بالكامل.
وكمؤشّر على عمق الأزمة في هذا الموضوع بلغت قيمة المساهمات الاجتماعية المخصصة في الموازنة العامة في العام 2023 على أساس التزام 818 مليون شيقل، بينما سددت الحكومة نقدًا 1.106 مليار شيقل أي بنسبة 129% من الالتزام، وهذا يؤشر على تدخُّل طارئ (رغم الأزمة المالية التي تمر بها السلطة الوطنية) نظرًا للوضع المالي المتفاقم في هيئة صندوق التقاعد والمعاشات.
ثانيًا: مستحقات الموظفين المتأخرة: تراكمت التزاماتٌ على الحكومة في بند الرواتب بمعدل 5.5 راتب حتى نهاية نيسان/ابريل الماضي، وبلغ مبلغ التراكمات نحو 750 مليون دولار حتى شباط/فبراير الماضي، لكن المبلغ حسب تقديرات مراقبين تجاوز المليار دولار حتى نيسان/ابريل.
ثالثًا: مستحقات القطاع الخاص: كي تتضح الصورة أكثر نشير إلى أن النظام المالي في وزارة المالية يمر عبر ثلاثة مراحل: "ساين 1"، و"ساين 2"، و"ساين 3"، الأولى تتعلق بتقديم المعاملة المالية، والثانية يتم تجهيزها للمدقق المالي للصرف، والثالثة تكون جاهزة بشكلها النهائي للصرف.
الاختلاف حول المبلغ المستحق لصالح القطاع الخاص يتعلق باعتماد المبالغ حسب مرور المعاملات في مرحلتيها الثانية أو الثالثة، وكذلك يتعلق باعتماد أذونات دفع مؤجلة استحقت أم لم تستحق، ولكن بالمحصلة تقرّ الحكومة بأن مستحقات القطاع الخاص لا تقل عن 1.3 مليار دولار حتى شهر نيسان/ابريل الماضي.
بالمحصلة، فإنه باحتساب الدين العام حسب القانون، وباحتساب الاستحقاقات المترتبة على الحكومة، يتبين أن إجمالي الالتزامات المستحقة لن تقل بأي حال من الأحوال عن 9 مليارات دولار، فيما قالت الحكومة الحالية في بياناتها بأن الدين وصل إلى 11 مليار دولار.
بغض النظر عن الخلاف حول حقيقة الرقم، يبقى السؤال الأهم ما هو أثر حجم هذا الدين والاستحقاقات على الدورة المالية والاقتصادية في فلسطين؟
يقول الباحث الاقتصادي المختص في شؤون الموازنة مؤيد عفانة، إنه بغض النظر عن مفهوم الدين العام، غير أن الالتزامات المترتبة على السلطة الوطنية مستحقة، وهي تحرم فئات اجتماعية مختلفة في أمسّ الحاجة للمال لتسيير شؤونها، سواء الأمر يتعلق بالموظفين أو مؤسسات القطاع الخاص أو المتقاعدين، منوهًا أن تقليل النفقات الحكومية في هذه المجالات يعني حرمان السوق من السيولة النقدية، وبالتالي مزيد من التراجع للدورة الاقتصادية ما يضر بالحكومة نفسها.
وأوضح مؤيد عفانة لـ الترا فلسطين، أن تراجع الدورة المالية وما ينجم عنها من تأخير في الدورة الاقتصادية، يعني تراجعًا في الإيرادات العامة نفسها، فلو توفرت هذه السيولة في الأسواق لنشطت الحركة الاقتصادية، ولارتفعت إيرادات السلطة الضريبية نتيجة زيادة الاستهلاك.
ويؤكد مؤيّد عفانة، أن خطورة الدين العام تتمثل في أنه يوجّه ضربة حقيقية لعصب الاقتصاد الفلسطيني، مبينًا أنّ تأثيرات الاستحقاقات المترتبة لصالح الموظفين والمتقاعدين والقطاع الخاص أكبر من الدين العام (القروض)، كون الأخيرة منظمة ومجدولة ضمن تسديدات متعارف عليها.
تأثيرات الاستحقاقات المترتبة لصالح الموظفين والمتقاعدين والقطاع الخاص أكبر من الدين العام (القروض)، كون الأخيرة منظمة ومجدولة ضمن تسديدات متعارف عليها
ويقول عفانة: "حجم الدين العام ليس كبيرًا قياسًا بالناتج المحلي الإجمالي، هذا صحيح، لكن لا يمكن قياس هذا المعيار على الحالة الفلسطينية، فالدول المستقرة لديها حجم مديونية أعلى، لكنها لا تتأخر على سبيل المثال عن دفع رواتب موظفيها".
ويضيف، "في اقتصاديات الدول المستقرة يوجد مخاطر منتظمة، أما في فلسطين فالمخاطر منتظمة وغير منتظمة، وهو أمر غير موجود في أية دولة أخرى، لذا فإن تحسس الاقتصاد لحجم المديونية العامة كبير جدًا"، مشيرًا إلى أن الدول الأخرى تمتلك أدوات تدخل مالي ونقدي لتنظيم المديونية لديها، خلافًا للحالة الفلسطينية "التي يوجد فيها أدوات تدخل محدودة جدًا".
يذكر أن السلطة الفلسطينية تعاني من أزمة مالية خانقة حالت دون تمكينها من صرف رواتب كاملة لموظفيها منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2021، كما أنها تسببت في رفع ديون القطاع الخاص.
وتعمّقت الأزمة منذ السابع من أكتوبر، بعد اقتطاع الاحتلال الاسرائيلي شهريًا قرابة 250 مليون شيقل من أموال المقاصة، وهي الإيراد الرئيس لخزينة السلطة الفلسطينية، بدعوى أن هذا المبلغ هو قيمة الرواتب التي تحوِّلها السلطة الفلسطينية لقطاع غزة، وأعقب ذلك التوقّف عن تحويل أموال المقاصة كليًا بدءًا من شهر نيسان/ابريل الماضي، وسط إعلان صريح من وزير المالية الاسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأنه يرغب في دفع السلطة الفلسطينيّة إلى الإفلاس، بعد حصولها على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ما أدى إلى صرف 50% فقط من رواتب الموظفين عن شهر نيسان/ ابريل.
وتراجعت إيرادات السلطة الفلسطينية الضريبية سواء (المقاصة) أو الإيرادات المحلية إلى نحو النصف في الأشهر الأخيرة، بسبب تباطؤ الدورة الاقتصادية نتيجة تداعيات الحرب على غزة.
وأعرب الاحتلال الاسرائيلي عن نيته مناقشة إقرار قانون في الكنيست بمصادرة أموال السلطة الفلسطينية المحتجزة منذ عدة سنوات، التي تصل إلى قرابة 3 مليارات شيقل.
ولم تنجح جهود السلطة الفلسطينية في تجنيد مساعدات خارجية لمساعدتها في التخفيف من وطأة الأزمة المالية، بل إن دولاً عربية رفضت في القمة العربية التي انعقدت مؤخرًا في العاصمة البحرينية المنامة بشكل صريح استئناف تقديم الدعم المالي للسلطة الفلسطينية، متهمةً إيّاها بأنها سلطة "فاسدة" ولا تمثل كلّ مكونات الشعب الفلسطيني، ومطالبة بضرورة إجراء إصلاحات واسعة قبل الحديث عن الدعم المالي، الأمر الذي بات حسب مراقبين يهدد بانهيار السلطة الفلسطينية ماليًا خلال الأشهر المقبلة إذا بقيت الأوضاع على أحوالها.