المجتمع المدني الفلسطيني مجتمع مغترب عن أهله إلى حدّ كبير، وقلما نلمس تواصلًا أو انسجامًا بين المجتمع المدني والمجتمع الأوسع، وكأنهما يعيشان في حيّز جغرافي وثقافي وبيئة مختلفة، ما يضعف حالة التواصل بينهما. فالمجتمع المدني أشبه بأغصان يانعة لكن جذورها لا تمتد عميقًا في الأرض، وهذا يضعف قدرته على التغيير وقيادة توجهات المجتمع.
من المنطقي أن يكون هناك درجات أعلى من التواصل والترابط بين المجتمع المدني والمجتمع المحيط به، فالمجتمع المدني هو إفراز طبيعي للمجتمع الأوسع، وهو يعبّر عن مصالح العامة ويحميها أمام طبقة الحكم، وينمو ويشتد عوده صلابة بامتداد واتساع جذوره داخل المجتمع، فكلّما تعمقت جذوره في المجتمع أكثر كلما ازدادت سيقانه قوة واخضرارًا، وصمد أكثر في وجه الريح العاتية التي تهدد مصالحه ومصالح المجتمع.
بالكاد تستطيع الاتحادات والمؤسسات النسوية حشد جمهور من النساء، لقد خسرت الحركة النسوية امتدادها الطبيعي
الصورة السابقة لا تنطبق برمتها على المجتمع المدني الفلسطيني، فغالبية المؤسسات الأهلية القطاعية تعيش بعيدًا عن الجمهور الذي تمثله. هذا هو على سبيل المثال حال الاتحادات والمنظمات النسوية الفلسطينية، فقد كانت أصغر مؤسسة نسوية في أصغر بلدة قادرة قبل ثلاثين عامًا على أن تجمع مئات النساء في أي نشاط من أنشطتها كإحياء يوم الثامن من آذار، أمّا الآن فبالكاد تستطيع الاتحادات والمؤسسات النسوية مشتركة أن تجمع مثل ذاك العدد في نشاط مركزي تنفذه إحياءً للمناسة ذاتها، فقد خسرت الحركة النسوية امتدادها الطبيعي بين النساء.
حال النقابات العمّالية ليس أفضل حالًا؛ فهي تفتقر لالتفاف جماهير العمال حولها، تجدها الآن شبه خاوية من العمال الذين كانوا يتوافدون سابقًا على هذه المقرّات باعتبارها بيتهم الثاني، لقد بات المسؤولون في هذه النقابات يرتبطون باتحاد نقابات العمال أكثر من ارتباطهم باعضاء النقابة أو فئات العمال التي تثمثلهم هذه النقابات. وهذا ينطبق على غالبية الاتحادات والمنظمات الشعبية الأخرى إذا ما استثنينا بعض نقابات مزاولة المهنة المستندة بالدرجة الأولى على فئة الجمهور الذي تمثله، فلا عمق لهذه الاتحادات سوى في هياكل منظمة التحرير الفلسطينية وليس لدى الجمهور الذي يفترض أن تمثله.
المنظمات الأهلية الفلسطينية والتي باتت تعرف باسم "المنظمات غير الحكومية" وبعضها يتسم بالكفاءة المهنية والإنجاز، يفتقر غالبيتها اليوم للعمق الجماهيري، بعد أن باتت تستند إلى هيئات عامة ضعيفة لا يتعدى عدد غالبيتها ضعف عدد مجالس إدارتها، وفي الغالب يمثل كل عضو ونصف أو عضوين من الجمعية العمومية عضو واحد في مجلس الإدارة، قد تقدم هذه المنظمات خدمات لقطاعات واسعة من المستفيدين، لكن جذورها حقيقة لا تتعدى جدران المؤسسة التي تعيش بها، فالجمهور الذي يتلقى خدماتها هو أقرب إلى المستفيد لا إلى المالك لهذه المؤسسات، وبالتالي فإن العلاقة التي تربطه بها هي علاقة باتجاه واحد لا اتجاهين، مع أنه لا ضير من توسع هذه المنظمات عضويتها لتضم الفئة التي تخدمها، ولا ضير أصلًا أن يستفيد أعضاء جمعيتها العمومية من هذه الخدمات على أسس شفافة ونزيهة، وتصبح علاقتهم بها عضوية، لا متلقين فحسب.
الإنجازات لا تعدّ ولا تُحصى، لكن على أرض الواقع لا نتائج تحققت، ولا تغيير يُلمس
حين يتحدث المجتمع المدني بكافة مكوناته عن منجزاته فهي عظيمة، لا تعد ولا تحصى، وتركت نتائج باهرة في التغيير والتقدم المجتمعي، كل ذلك موثق ومعد بلغة معنية يفهما فقط بعض المختصين في عمل المجتمع المدني. لكن إن خرج أي منا إلى الفئات التي يتوجب أن تخدمها بعض هذه المؤسسات لوجدت النتيجة ليست كما يرام لدى جمهورها، فلا نتائج تحققت على الأرض، ولا تغيير يُلمس في الواقع، وتبدع بعض هذه المؤسسات بعرض نماذج قصص نجاح فردية قد لا تكون لها علاقة بها، تخفي خلفها فشلها في إحداث أي تغيير.
هذه النظرة القاتمه لا تنطبق على جميع المؤسسات، فعلى رقعة المجتمع المدني قد تلحظ بقعًا أقلّ سوادًا أو حتى شبه بيضاء، تمثل مؤسسات ومنظمات استطاعت أن ترتبط مع الجمهور الذي تمثل مصالحه، وحاولت إحداث تغيير في داخل المجتمع، بعضه كان ملموسًا، وبعضه بقي محصورًا لأسباب قد تكون خارجية ولا تتعلق بها، لكن عدد هذه المنظمات بقي محصورًا مقارنة مع الغالبية من مؤسسات المجتمع المدني.
مؤسسات المجتمع المدني تصدر سنويًا مئات التقارير والدراسات والأبحاث في قضايا متعددة ومواضيع شتى ذات علاقة بمختلف القطاعات، غالبية هذه الانتاجات تبقى في الغالب حبرًا على ورق، لا يقرؤها سوى مصدّروها وعدد محصور من "المهتمين"، فالمجتمع الأوسع لا علاقة له بما تصدره هذه المؤسسات، والجهات الرسمية المختصة لا يعنيها ما كتب حتى لو كان يتعلق بأدائها، بل إن غالبيتها تقاطع الاجتماعات والورشات التي تناقش هذه الإصدارات ولا تفكر بالاستفادة من نتائجها على الغالب، إضافة إلى أنّ الجزء الأعظم من هذه الإصدرات والورشات والنقاشات يتم في الشهر الأخير من السنة قبل انتهاء السنة المالية للمؤسسات.
مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة بالاتحادات الشعبية والنقابات أشبه ما تكون بمؤسسات رسمية، أعضاؤها موظفون رسميون يتقاضون رواتبهم وأجرة مقارّهم من الخزينة العامة، وبالتالي اقترنت مصالحهم مع مصالح السلطة، أما باقي المنظمات غير الحكومية الناشطة فهي تعتمد في نشاطها على المانحين الخارجيين، وأنشطتها جزء من مشاريع، تبدأ مع التمويل وتنتهي معه دون استمرارية ودون أي نتيجة حقيقية على الأرض، وعدد كبير من المؤسسات انخفض نشاطها بسبب انخفاض التمويل من الجهات المانحة وتحوّل البعض إلى جهات منفذة للمشاريع، وهذا يعزز من حالة الاغتراب بين المجتمع المدني والمجتمع المحيط به.
إن تحرر المجتمع المدني من حالة الاغتراب التي يعيشها مع جمهوره لا يمكن أن يتم دون بثّ روح الديمقراطية في الاتحادات والنقابات والمنظمات الشعبية من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة تفرز قيادات شابة جديدة ودورية. ودون أن يتم فتح باب العضوية لانضمام أعضاء جدد إلى هذه الاتحادات والمؤسسات، وأن تتحول إلى عناوين خادمة للقطاعات التي تنتمي لها، لا لمسؤوليها.
غالبية المؤسسات الأهلية القطاعية تعيش بعيدًا عن الجمهور الذي تمثله
ودون تعزيز روح العمل الطوعي داخل هذه المؤسسات والاتحادات فلا يجوز أن تعتمد هذه المؤسسات على الموظفين فقط. ولا بد من انخراط هذه المؤسسات بين الجمهور الذي تعبّر عن مصالحه، لا أن تتعامل معه كمستفيد فقط. ولا بد أيضًا أن تكف الأحزاب السياسية يدها عن تدجين هذه المؤسسات والاتحادات باعتبارها أدوات لها، فعمل الأحزاب السياسية أصبح علنيًا، وهي ليست بحاجة إلى أطر تختبئ خلفها كما كانت إبان العمل السري. ولا بد من تعزيز مصادر الدعم الوطني لمؤسسات المجتمع المدني وعدم تركها معتمدة فقط على مصادر التمويل الخارجي وذلك من خلال إنشاء صندوق وطني لدعم عمل هذه المؤسسات، فقطاع العمل الأهلي لا يجوز النظر إليه بأنه أقل أهمية من القطاع الخاص، فهو يشغّل عشرات آلاف الموظفات والموظفين. بتحقيق هذه الإصلاحات وغيرها يمكن أن يصبح لدينا ذلك المجتمع القادر على التغيير؛ له أغصان وجذور ممتدة بين المجتمع خاصة في ظل ترهل وضعف الأحزاب السياسية والمؤسسات الرسمية التي لم يعد المواطن يشعر بوجودهما الفعلي، وقدرتها على التغيير.
اقرأ/ي أيضًا:
التنمية والتعليم في فلسطين.. المنهج استعماري!