يكتسي الحديث عن تجربة بلدة بيتا -التي أتشرف بالانتساب لها والعيش فيها- في مواجهة الاحتلال ومستوطنيه، أهمّية خاصة، سواء أكان ذلك حول تجاربها الماضية، إبان الانتفاضة الأولى، أو خلال جولات المواجهة في السنة المنصرمة، وخصوصًا الجولة الملحمية الحالية على جبل صَبِيح. ثمّة عناوين بارزة تجدها في ثنايا التجربة، تؤهلها لتتبوأ لقب "مدرسة نضالية فريدة" بكل جدارة واستحقاق، يتعيّن الحفاظ عليها، وتطويرها وتعميمها، كونها تستبطن قدرًا من الريادة والإلهام.
5 عناوين بارزة في تجربة نضال أهالي بيتا على جبل صبيح، تؤهلها لتتبوأ لقب "مدرسة نضالية فريدة"
أوّلًا: حراس الجبل، وهذه وحدها حكاية فريدة من نوعها، أرأيتم الجبل الراسخ الذي تتصل قمّته جنوبًا بشارع رئيسي مباشرة، ومنه أتى الغزاة والمستوطنون ليضعوا يدهم عليه، حيث تبعد القمة المستهدفة بضع مئات من الأمتار عن حاجز زعترة العسكري المحصّن، والمدجج بجنود الاحتلال على مدار الساعة، بينما يبعد مركز بلدة بيتا عن قمة الجبل قرابة الثلاثة كيلومترات شمالًا، وأنّ نقاط تواصل الناس مع الجبل وقمّته تمر عبر وديان ومناطق شديدة الانخفاض، ولا يوجد طرق مُعبّدة توصل الناس بمركباتهم لقمة الجبل.
وفي ضوء ذلك، لكم أن تتخيّلوا حجم المفارقة والاختلال في ميزان القوى، فيما لو كان الصراع على الجبل وقمّته يدور بين جيشين نظاميين، بحكم خدمة التضاريس للاحتلال والمستوطنين، ولكم بعد ذلك أن تتخيّلوا كم يصبح الفارق والاختلال بين الطرفين، إذا علمتم أن شباب بيتا يواجهون البؤرة الاستيطانية المحمية بجيش الاحتلال الإسرائيلي بصدورهم المجرّدة إلّا من حب أرضهم، آخذين على عاتقهم حراسة الجبل، وحماية زيتونه وزعتره، ورد المستوطنين على أعقابهم.
ثانيًا: الهمة العالية والإصرار على تحقيق المراد، عبر تشخيص الهدف بدقة، وحشد الطاقات، وتركيز الجهود لتحقيقه عبر اجتماع السواعد، وتقسيم العمل والأدوار على مجموعات متنوعة، كل يقوم بدور محدد، بحيث تتكامل جميعًا في خدمة الهدف المرصود، وتتواصل فعاليّاتها لتغطي معظم ساعات اليوم، وبطريقة تتكرر يوميًا. وهي حالة تشبه معركة عضّ الأصابع، حيث يراهن الاحتلال على فتور همّة الشباب، وتراجع دوافعهم لحماية الجبل مع مرور الوقت، ولكن الشاهد على أرض الواقع يشير إلى أنّ وتيرة الاحتجاج، وحجم المواجهات تتصاعد يومًا بعد يوم.
هذه التجربة من المقاومة الشعبية يتعيّن الحفاظ عليها، وتطويرها وتعميمها، كونها تستبطن قدرًا من الريادة والإلهام
ثالثًا: التلاحم، ويظهر ذلك في بعدين؛ يتمثّل الأوّل بالاشتباك اليومي مع المستوطنين وجنود الاحتلال، عبر وسائل متعددة، تحمل في مجملها رسالة الإصرار على عدم الرضوخ لمنطق القوة، والأمر الواقع الذي يحاول المستوطنون فرضه على الأرض. ويعكس ذلك علاقة التناقض الطبيعية مع الاحتلال ومستوطنيه، التي يجب أن تظل سيّدة الموقف، طالما بقي الاحتلال مستبيحًا للأرض، ومغتصبًا للحقوق. أمّا البعد الآخر للتلاحم فيعكس التلاحم الداخلي الذي يسطره أهالي بلدة بيتا، إذ يجتمعون على غاية شريفة، يشترك فيها الجميع شبابًا ورجالًا ونساءً وأطفالًا، فيرابط الشباب الساعات الطوال على أطراف الجبل، يشاغلون المستوطنين و"يشوّشون" عليهم طيب المقام، فيما تعد النسوة الطعام والشراب داخل البلدة ويرسلنه طيلة الوقت للشباب في ميدان العز والرباط، وقد أخذت صور التلاحم تتطور عبر قدوم الكثير من شباب القرى المجاورة، وأخرى بعيدة لمشاركة أهالي بيتا المرابطة حول الجبل، فيما تداعي أصحاب مطاعم من قرى مجاورة أيضًا لإرسال وجبات مجانيّة من الطعام والمشروبات للمرابطين في بيتا، بطريقة تؤكد على أن دائرة التلاحم والتعاون الشعبي تتّسع، ويمكن لها أن تصنعًا فارقًا مهمًا في معركة الدفاع عن الأرض.
ومن صور التلاحم الملفتة التي تنطوي على تضحية وفداء وإقدام، تداعي الشباب لمساعدة وإخلاء المصابين على خطوط المواجهة المتقدمة، ويحملونهم لمسافات بعيدة عبر طرق وعرة، وضيقة وشديدة الانحدار، لإيصالهم لأقرب سيارة إسعاف.
رابعًا: الإبداع والابتكار، ويظهر ذلك عبر التّنويع في وسائل مواجهة المستوطنين والتشويش عليهم، وتنغيص مقامهم، وكل ذلك يعزز الرسالة التي مفادها أن ثمن الاستيطان، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية لن يكون سهلًا أو بسيطًا، ولن يمر مرور الكرام.
وبتثبيت هذه المنهجية، وتحويلها إلى برنامج عمل يتم تطبيقه أينما وجدت المستوطنات، على امتداد الأراضي الفلسطينية، عندها يمكن للفعل الشعبي أن يُسهم بفاعلية في التشويش على حركة الاستيطان، والحدّ من تغولها.
بتثبيت هذه المنهجية، وتحويلها إلى برنامج عمل يتم تطبيقه أينما وجدت المستوطنات، يمكن للفعل الشعبي أن يُسهم بفاعلية في التشويش على حركة الاستيطان، والحدّ من تغولها
من جهة أخرى، يتبدى الإبداع من خلال إيجاد حلول سريعة للتحديات التي يصنعها جنود الاحتلال أمام "حراس الجبل"، والتي تهدف لسحب أوراق القوة من بين أيديهم، وإبطال مفاعيل بعض أدواتهم المستخدمة، إذ سرعان ما تظهر بدائل أخرى للمواجهة تتجاوز تلك العقبات باقتدار، بطريقة تؤكد على أن روح التفاعلية الإيجابية في ميدان المواجهة عال ولا تحدّه سقوف.
خامسًا: تجاوز الإطار الفصائلي، إذ أن "الحراك البيتاوي" شعبي بامتياز، وقفز عن مدخل الفصائلية، الذي يمكن أن يشوّش على الحراك بفعل الحساسية في العلاقات الفصائلية في الوقت الراهن، لأسباب ليس هذا وقت سردها، ويصرُّ شباب الحراك وفتيانه على هذا الموقف بوعي كبير يُحسب لهم، كما يبادرون دون تردد بالتصدي لكل من يحاول إلباس الحراك لباسًا خاصًا. وهي حالة تذكّر بحقيقة تجاوز الموقف الشعبي للمواقف الرسمية غالب الأحيان، حيث يتحرر من أي حسابات سوى حساب المصلحة العامة، وينعتق من أي قيود سوى قيد المسؤولية في الذود عن الأرض وحمايتها من المعتدين، الأمر الذي يُحتّم على المستوى السياسي ضرورة الارتقاء لمستوى هِمّة الجمهور، والإصغاء لنبض الشعب، والاقتراب منه، وتوفير الغطاء والدعم اللازم له لمواصلة مشواره، وتحقيق أهدافه.
في المقابل، يطلب من شباب الحراك مزيدًا من الترشيد والعقلنة، وكلي ثقة بأنهم قادرون على فعل ذلك، ويتحقق الأمر عبر رؤية حراكهم ضمن الهمّ الوطني العام، وبوصفه رافعة للفعل النضالي على امتداد خارطة الجرح الفلسطيني. وبدلًا من التركيز على تقديم سردية تقول بتميّز بيتا في فعلها النضالي -وهي متميّزة فعلًا- ينبغي تعزيز فكرة الهمّ المشترك، وتقديم البعد العام على الخاص، الأمر الذي يجعل من "الحراك البيتاوي" مدرسة نضالية، تفرض حضورها في كل الساحات وأماكن الاحتكاك مع المحتل ومستوطنيه.
اقرأ/ي أيضًا: