ينبغي لنا التنبه والتفريق بين مصطلحات المقام والمزار والمشهد والضريح، ذلك أنه لكل مصطلح مدلول يختلف عن الآخر. فالمقام هو موضع القيام أو الموضع الذي تقيم فيه كالحي أو المدينة التي تقيم فيها. والمزار هو المكان الذي يضم قبر أحد الأنبياء أو الصحابة أو الصالحين يقصده الناس للزيارة والتبرك والصلاة فيه. أما المشهد في اللغة فمجمع من الناس، والأمكنة التي يتجمعون فيها، مثل عرفات والجمعة مثلاً. بينما الضريح في اللغة هو الشق وسط القبر أو هو القبر كله الذي يضم رفات العلماء أو الصالحين أو الزهاد. من هنا سنتعامل مع الموقع باعتباره مزارًا وليس مقامًا.
المزار أحد مفردات الصراع
مع كثرة المزارات الموجودة في فلسطين، بغض النظر عن كونها بناءً أو كهفًا أو كومة حجارة أو شجرة أو ضريحًا أو أي شكل آخر، والمنسوبة لمختلف الديانات، وهو الأمر الذي عكس دومًا التنوع الثقافي لفلسطين، ومنذ الوجود الصهيوني على أرض فلسطين قبل عام 1948 وبعده، أصبح مزار سيدنا يوسف في نابلس مثارًا للجدل والنقاش، ذلك أنه يشكل إحدى مفردات ومواضيع الصراع العربي الفلسطيني مع الصهيونية. وقد ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي اليوم في إثراء الموضوع من جهة، وفتحت الباب -من جهة أخرى- لسرد بعض القصص والمعلومات المغلوطة أو المنقولة بدون فحص علمي موثق، وهو ما يدفعنا لتسجيل هذه الورقة.
لا ينبغي لنا كعرب وفلسطينيين أن نخاف أو نشعر بالقلق عند ذكر اسم أي نبي له علاقة بفلسطين ويكون له علاقة باليهود والديانة اليهودية، وهو المنطلق الذي يستند له عامة الناس عند نفيهم لأي علاقة تربط بين اليهود وفلسطين
بداية لا ينبغي لنا كعرب وفلسطينيين أن نخاف أو نشعر بالقلق عند ذكر اسم أي نبي له علاقة بفلسطين ويكون له علاقة باليهود والديانة اليهودية، وهو المنطلق الذي يستند له عامة الناس عند نفيهم لأي علاقة تربط بين اليهود وفلسطين، يدفعهم في ذلك الشعور الوطني الذي يرافقه أحيانًا وعند البعض غياب القراءة الصحيحة للتاريخ.
ومن باب بعث الطمأنينة في قلوب هؤلاء، نقول إن تيار المدارس الآثارية التي نقبت كل شبر في فلسطين بالاستناد على الروايات التوراتية، لم يعد قائمًا تقريبًا أو لنقل أنه أضعف من ذي قبل، وظهر مقابله -منذ زمن ليس قصير - تيارٌ موضوعيٌ علميٌ يعتمد على المكتشفات الآثارية في إعادة رسم تاريخ المنطقة بما فيها فلسطين. وبالتالي نُسفت كثير من الروايات التوراتية على لسان علماء إسرائيليين وأوروبيين. كما أن الإيمان بالرسل والأنبياء كافة هو جزءٌ من إيماننا كمسلمين، وبالتالي نحترمهم وننظر لهم بإجلال كبير، كما أننا نحترم كل الديانات والمعتقدات، وذلك مسجلٌ عبر تاريخنا الطويل.
وكلنا يعلم أن الرواية الصهيونية اليوم تستند إلى القوة وليس على الحقيقة التاريخية، تلك الحقيقة التي تحاول تزويرها وتسويقها. ولربما لدينا مثالٌ حيٌ وحديثٌ يتعلق بخربة برناط على السفح الشمالي لجبل عيبال الذي هو وفقًا للمعتقدات اليهودية "جبل اللعنة"، وقد رفضها بعض الآثاريين الإسرائيليين والأوروبيين كموقع يهودي استنادًا للمكتشفات التي وجدت فيه، رغم أن الحفريات قام بها آثاريون إسرائيليون. ومع ذلك يذهبون للصلاة والتعبد في الموقع تحت حماية الجيش حتى اليوم.
مزار سيدنا يوسف عليه السلام
يقع المزار في الطرف الشمالي الشرقي لقرية بلاطة شرق مدينة نابلس التي بناها الرومان. وبمحاذاة شكيم الكنعانية وإلى الشرق منها. وموقع المزار جغرافيًا في مدخل الوادي الذي يمتد غربًا بين جبلي عيبال شمالاً وجرزيم جنوبًا ويحتضن اليوم مدينة نابلس العربية، ويُطل الموقع على سهل بلاطة وعسكر شرقًا.
تبلغ مساحة المزار 661 متر، ويقع في حوض رقم 24005 قطعة رقم 10، وهو مسجل طابو للأوقاف. يتكون من ثلاث غرف تتوسط ساحة مدخلها من جهة الشمال، على اليمين غرفة وعلى اليسار غرفة، وفي الوسط أمامًا تقع الغرفة الرئيسة ذات سقف مقبب وفق نموذج البيوت الفلسطينية القديمة، مدخلها عبارة عن إيوان واسع مدمج مع السقف، وهي التي تشتمل على محراب وقبر اتجاهه جنوب شمال وليس شرق غرب. وقد بُنيت على الطراز الإسلامي الذي يشتمل على سقف مقبب وأقواس وجدران سميكة، في العهد العثماني.
إن تتبع الصور القديمة والحديثة ومقارنتها يُفيد أن هذه الغرفة -التي تشكل البناء الرئيسي- قد بُنيت بزمن أسبق من الغرفتين على اليمين واليسار. والجدير بالذكر أن أول إشارة للقبر ظهرت على لسان حاج فرنسي مجهول الاسم من مقاطعة بوردو في فرنسا عام 333م
إن تتبع الصور القديمة والحديثة ومقارنتها يُفيد أن هذه الغرفة -التي تشكل البناء الرئيسي- قد بُنيت بزمن أسبق من الغرفتين على اليمين واليسار. والجدير بالذكر أن أول إشارة للقبر ظهرت على لسان حاج فرنسي مجهول الاسم من مقاطعة بوردو في فرنسا عام 333م.
التنقيب في المزار
آرنست سلين آثاري ألماني، قام بالتنقيب في عدة مواقع في فلسطين وتحت مظلة الحكم العثماني آنذاك. ففي العام 1902م كان رئيس بعثة آثارية نقبت في تل تعنك التابعة لجنين، وفي العام 1911م كان ينقب في أريحا عندما طلب منه وكيل الحفريات الألماني نقولا داتوري التوجه إلى نابلس، وإلى قرية بلاطة تحديدًا والتمهيد لحفر منطقة "الظهر"، التي كان قد كشف موقعها الرحالة الألماني هيرمان تيرش عام1903م.
وحصل سلين وداتوري على تصريح من السلطات العثمانية بالحفر والتنقيب في المنطقة المذكورة، بعد أن أتما إجراءات واتفاقيات مع أصحاب الأرض الأصليين من عائلتي نصر وموسى، واتفقا معهم على دفع مبلغ 275 ليرة عثمانية، نصفها نقدًا عند توقيع الاتفاق، والنصف الثاني عند بدء الحفريات. وقد بوشر العمل فعلاً عام 1913م واستمر حتى العام 1934م كمرحلة أولى، فيما أُكملت المرحلة الثانية خلال 1956م حتى 1969م، ليتم الكشف عن شكيم الكنعانية التي باتت تُعرف اليوم بتل بلاطة، وأصبحت من أهم المواقع السياحية المهمة في فلسطين خاصة بعد تأهيل الموقع لاستقبال السياح والزوار المحليين والأجانب على السواء.
في الفترة التي عمل فيها سلين في بلاطة حاول الحصول من السلطات العثمانية على ترخيص للحفر في مزار سيدنا يوسف عليه السلام الواقع شرقي شكيم ومحاذاتها بالضبط، إلا أن السلطات العثمانية رفضت طلبه، ويبدو -على ما تذكر المصادر- أن الفكرة بقيت في مخيلته لوقت ليس قصير. ذلك أنه بعد الحرب العالمية الأولى وما آلت إليه أوضاع المشرق العربي ومنها فلسطين، نجح سلين في الحصول على رخصة من سلطات الانتداب البريطاني للحفر في المزار. وفي حين تذكر مصادر أن ذلك تم في الثلاثينات، وهي رواية أقرب للسياق، فهناك مصادر تقول إن ذلك تم في العام 1941م، ومهما يكن وفي كلتا الحالتين لم يعثر على أي رفات بشرية.
على أنه من الثابت ووفقًا للمصادر قيام السلطات البريطانية بحفر القبر وفحص محتوياته، فقد رافق عمل آرنست سلين بالتنقيب تساؤلٌ عما إذا كانت بريطانيا فعلاً قد استعانت بألماني للتنقيب والبحث هناك، باعتباره مواطنًا من دولة قاتلت بريطانيا وهُزمت أمامها، وهو بكل حال أمر ليس مستبعد، ولكن يُبقي الباب مفتوحًا لمزيد من البحث.
تولى سدانة المزار على الدوام أناس من السكان المحليين في قرية بلاطة، فمثلاً كان يقوم بسدانته وخدمته عام 1904م الشيخ فيض الله عبد الله الأسمر بموجب فرمان من الدولة العثمانية، فيما كان مطلوبًا من والي نابلس توفير كل مستلزمات المزار من زيت وإنارة وماء وغيره.
أخيرًا ومع كل الجدل الذي يُثار، يمكننا رصد ثلاثة معتقدات ترافق الجدل دومًا حول الموقع: الأول اعتقادٌ يقول بوجود مزار وهو اعتقاد إسلامي. والثاني اعتقادٌ يقول بوجود قبر وجثمان وهو اعتقاد يهودي. والثالث اعتقادٌ يقول بعدم وجود قبر ولا جثمان ولا مقام لسيدنا يوسف، وإنما هو قبر أحد الصالحين المسلمين.
إن المباني الموجودة حاليًا لا يتجاوز عمرها المئتي عام، كما أن البناء الرئيسي إسلامي الطراز والغاية، ولا يتعارض مع كون المكان مزارًا قبل وجود هذا البناء، فهو تطوير للموقع فقط
وفي هذا السياق يمكن تسجيل جملة من الدلائل التي تجعل المكان إسلامي، فقد جرت العادة دفن المسلم جوار المسجد وليس إقامة المساجد فوق القبور باعتباره أمرًا مخالفًا للشريعة الإسلامية. على أن هناك مقاماتٌ تضم بين جدرانها قبور أنبياء أو صالحين، ولكنها لم تُصمم بالأساس كمسجد يؤمه الناس خمس مرات في اليوم للصلاة، آخذين بعين الاعتبار أن امتداد القبر داخل البناء جنوب شمال، وليس غرب شرق أي إسلامي، وهو خالي من الرفات بكل حال.
إن المباني الموجودة حاليًا لا يتجاوز عمرها المئتي عام، كما أن البناء الرئيسي إسلامي الطراز والغاية، ولا يتعارض مع كون المكان مزارًا قبل وجود هذا البناء، فهو تطوير للموقع فقط، وربما بُني في عهد التنظيمات حين حاولت الدولة العثمانية التقرب من دول أوروبا.
كما أن وجود المحراب في الجهة الجنوبية وهو اتجاه الكعبة في فلسطين يؤكد كونه موقعًا إسلاميًا. وقد كان المزار على الدوام خلال الفترة العثمانية ولاحقًا في عهد الاحتلال البريطاني مدرسة تعلم فيها كثيرون من سكان قرى بلاطة وروجيب وعسكر وعراق التايه وغيرها. كما أن هناك رواياتٌ كثيرةٌ حول موقع دفن سيدنا يوسف؛ في الخليل وفي نابلس وفي طبريا وفي مصر حيث عاش وتوفي هناك، وهي الجدلية التي تحتاج لدراسة وبحث أعمق وقراءات عديدة، ولا يمكن اعتماد التوراة كمصدر وحيد لها.
المصادر والمراجع
1. أرشيف مديرية أوقاف نابلس، صفحات دون ترقيم.
2. عبد الله مخلص، عضو المجمع العلمي العربي بدمشق. جب يوسف الصديق وقبره الشريف، منشور في القاهرة، 1927م، ص 38.
3. بحث بعنوان؛Joseph's Tomb A Model of Traditional Islamic Shrines in Palestine، منشور في مجلة؛ NEAR EASTERN ARCHAEOLOG، د. لؤي ابو السعود، د. عامر القبج. 28/2/2019م.
4. خالد محمد محمود منصور، مقام النبي موسى، ط2، 2018م، منشورات دار الغد للنشر والتوزيع، فلسطين، ص 35-36.
5. أوراق خاصة، فرمان من السلطان عبد الحميد بتعيين الشيخ فيض الله خادما للمقام، بحوزة عبد الفتاح فياض. 2001م.
6. أوراق خاصة، بعنوان قبر يوسف، دون تاريخ، د. إبراهيم الفني مدير قسم الآثار في بلدية نابلس.
7. غسان محمد عبد الحليم دويكات، الحياة الاقتصادية والاجتماعية في منطقة مشاريق نابلس 1799-1918م/1214-1336هـ، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة النجاح الوطنية، 2014م، ص 90-91.
8. جريدة القدس، 11/11/1995م.
9. مقابلة شخصية مع المحامي عبد الفتاح فياض، حفيد الشيخ فيض الله، بلاطة، 2001م.
10. مقال على موقع وكالة معا بعنوان؛ تميمة عيبال!!!، د. ضرغام فارس، 1/4/2022م.
11. مقال على موقع وكالة الأناضول بعنوان؛ شكيم مدينة كنعانية تروي تاريخ حضارات توالت على فلسطين، لبابة ذوقان، 13/5/2016م.
12. جولة ميدانية، تل بلاطة، شكيم الكنعانية، 13/2/2019م.