قد تقرأ عن متحف اللوفر، غوغنهايم، برادو، دون أن تحظي بزيارة أي منها، لكن زيارة معرض "مقارنات تأملية" تشكل تجربة ثرية تفاعلية مع عالم الفن الإبداعي بمشاركة 64 فنانًا وفنانة من قطاع غزة المُحاصر.
يجمع المعرض بين مختلف أساليب الفن المعاصر، ويقدم اللوحات التعبيرية والرمزية، والرسومات التصويرية، والمنحوتات، إضافة إلى الصور الفوتوغرافية والأعمال الأدائية، وفن الفيديو آرت، وجميعها أعمالٌ تم إنتاجها خلال ورشات عمل وإقامات فنية ومنح إنتاجية ضمن مشروع "روابط معاصر". كما يُقدم جلسات حوار تفاعلية بين الفنانين والجمهور.
معرض "مقارنات تأملية" يُقدم لوحات تعبيرية ورمزية ورسومات تصويرية ومنحوتات وفيديو آب
التوقيت والمكان الذي أتيح للمعرض، جعل من عدد الجمهور الزائر غير مسبوقٍ في أي معرض فني في غزة، فعادة ما يقتصر زوار هذه المعارض على عددٍ من فنانين وأصدقائهم، أو من المثقفين، لكن هذه المرة كانت مغايرة تمامًا، فاتساع المكان والمدة الزمنية المتاحة لزيارة المعرض فتحا مجالاً للزوار لاستيعاب المزيج الفني الشامل الذي خلق تجربة تفاعلية بين الفنان والجمهور بمختلف الأدوات، وشكّلا حافزًا لفئاتٍ متنوعةٍ للحضور بشكل يومي إلى صالة العرض.
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | معرض "مواجهة".. لوحة تشكيلية رقمية
لم يأتِ معرض "مقارنات تأملية" لتقديم ماهو معتادٌ في موضوعٍ محددٍ يغلب عليه أسلوبٌ واحدٌ، بالجمع بين الأعمال الفنية لرواد الحركة التشكيلية في قطاع غزة، ومحاولات الشباب لتقديم أسلوبٍ جديدٍ وأدواتٍ جديدة لإثارة تساؤلٍ عن ماهية الفن، وأين الفن من كل مايحدث حولنا.
شكلت أدوات التعبير المعاصرة لدى الفنانين المشاركين نقطة تحولٍ في لغة التعبير الفنية المعتادة، فأصبحت أكثر تنوعًا وتعددًا، وعند التجول بين الأعمال تجد أن المشاركات النحتية تميزت بأنها نحتٌ تقليديٌ ثابت، ولم تصل لمرحلة النحت المتحرك. يتنقل المشاهد حولها ليستكشف أبعاد جزئياتها، ففن النحت يعتبر من الفنون القديمة التجسيدية، يرتكز على إنشاء مجسمٍ ثلاثي الأبعاد باستخدام أدواتٍ مختلفةٍ كالحجارة أو الخشب، والمعدن والرمل والشمع وغيرها، لتتمكن من رؤيته من كافة الزوايا.
وفي حدود اللامعتاد، خصص القائمون على المعرض قسمًا يحفز السؤال بين المعتاد وغير المعتاد، من خلال عرض الممارسات الفنية المعاصرة الحالية التي تمتاز بالتجريب والابتكار، مع إخلاصٍ للفكرة ومعالجةٍ للمفاهيم، عبر أسلوبٍ دلاليٍ، وتمنح المتلقي منظورًا مختلفًا لواقع الفنون المعاصرة.
خصص القائمون على معرض "مقارنات تأملية" قسمًا يحفز السؤال بين المعتاد وغير المعتاد
كما تضمن المعرض أعمالاً عديدة في حدود المعتاد تقدم ممارسات فنية تستند إلى الطرح المباشر بأدوات التعبير البصرية المتعارف عليها، والتقنيات التقليدية في عالم الفن، ويظهر الكثير منها انحيازه لواقع الحياة السياسية والاجتماعية في غزة.
وفي قراءة لأبرزها، يمكن للزائر تذكر كلمة دان بروان في روايته الأصل: "حين تراني وجهًا لوجهٍ ستكتشف المساحة الخالية"، تعبيرًا عن صورةٍ تظهر وجهين لشخصين متقابلين، وهو ما جسده الفنان محمد أبو حشيش بعملٍ نحتيٍ مصقولٍ لوجهين يبدوان متطابقين، لكن عند النظر من داخلهما يمكن اكتشاف حجم التناقض والاختلاف في كل ما يراه الآخر من مساحته الخاصة.
تمكن الفنان عبد الله الرزي، من جمع كتلة الأشكال الفوضوية للصفائح المعدنية الصدئة في مجسمٍ تركيبي معلق، بدا على هيئة جمل أمامه صبار صحراوي، لينعكس ظلاله على الجدار، تراه عندما تبتعد عنه على هيئة خريطةٍ مترامية الأطراف، ليظهر فن التجميع لتشكيل مجسم ثابت يعطي للمادة روحًا من خلال الضوء والفراغ.
جسد الفنان معين السوسي، الحياة، من خلال صنوبر الماء المفتوح، في إشارةٍ لاستمرارها مستخدمًا زجاجة بلاستيكية يفرغها من الماء كلما امتلأت، وذلك تعبيرًا عن الانشغال اليومي دون التفكير كيف سيبدو الحال بعد الموت، وهو عنوان "الفيديو آرت" الذي قدمه في المعرض.
قدم الفنان أيمن الحصري، فيديو لعملٍ أدائيٍ بعنوان حياد، أظهر تراشقًا للألوان على جسد شاب وضع يديه في جيوبه، في تعبيرٍ رمزيٍ عن عدم الاكتراث، مثبتًا نظره إلى الأسفل، ومحركًا رأسه تارة إلى اليمين وأخرى إلى الشمال، وقد اختفت ابتسامته بالكامل في دلالة واضحة لتعدد وجهات النظر والأحداث التي تدور حوله، ثم يعود بالزمن إلى الوراء، ويسحب الفنان الألوان عن جسد الشاب ليعود قميصه إلى اللون الأبيض، لتنطلق من جديد دون أن تلتصق به، فقد أحيط بصندوقٍ زجاجيٍ ليصبح محايدًا.
الفنان محمد الحاج جمع بين المألوف واللامألوف، من خلال حوار عبر النافذة بين قط وعصفور، مجسدًا بساطة البيوت القديمة وجمال زخارفها وهندستها العمرانية المألوفة بزخارف أرضياتها وجدرانها، واللامألوف من حوار لا يمكن توقع نهايته وعدم منطقية ديمومته.
"لاتتوقف عن كونك صديقي"، دعوة التقطتها كاميرا الفنان باسل المقوسي الذي شارك مجموعة من الصور الفوتوغرافية لكلمات تناثرت على الجدران تحمل رسائل واقعية للمجتمع، تنطق بها الحروف دون أصحابها، ومنها "عيونك مثل الحكومة لاعدل لارحمة ولامساواة"، و"الحكومة لاتعرف الحب"، و"عيناك داري ودار السلام".
أما الفنان ميسرة بارود فشارك بلوحتين من معرضه "مدن الملح" الذي افتتحه في الضفة الغربية دون حضوره الشخصي. حملت اللوحتان عنواني "مدينة السلام" و"أرواح منسية"، واستخدم فيهما التباين بين اللون الأبيض والأسود، كما استخدم الحبر على ورق الفبريانو، لخلق مساحةٍ جمعت العديد من الرموز الدينية والفكرية كالهلال والصليب والقباب، وكذلك الأجساد التي تقف فوق بعضها البعض، مُحاوِلَةً الوصول للحرية والسلام. فـ"أرواح منسية" توسطها جسدٌ مغطى الوجه بالكامل، مقيدًا خافض الرأس، تحيطه أجسادٌ بيضاء صغيرة تبدو كمن أطلق العنان لأجنحة البحث عن الروح من جديد، جعلها بيضاء لتجدد انبعاث الأمل.
قدم الفنان محمود الحاج أربع صور مطبوعة على ورق، ومن بينها صورة بعنوان "تاريخ آخر" ركب فيها صورة لأحفاد الأسرة الملكية في بريطانيا يحيطون بالملكة، وخلفهم خيمة لجوءٍ لامرأةٍ مهجرة. أما "جواز سفر"، فكانت عبارة عن عيون مغلقة وأيادي مربوطة إلى الخلف. وقف ثلاثة فلسطينيين يتعرف الزائر على هويتهم من كوفية الرجل وثوب المرأة المطرز محاولين البحث عن هويتهم الفلسطينية، وفوق رؤوسهم شعار السلطة الفلسطينية، في محاكاةٍ للوحة الفنان الفلسطيني سلمان منصور.
"في حدود الريادة"، قسمٌ خصص لتسليط الضوء على أبرز التجارب الفنية الرائدة في غزة، لتمكن الزائر من الوصول إلى معادلة المقارنة التأملية وفتح آفاق التساؤل، ومراجعة الخطاب التعبيري الإبداعي، مثل لوحات الفنان الراحل كامل المغني، والفنانين شفيق رضوان، وفايز السرساوي، وتهاني سكيك، وأحمد أبو الكاس، وفايز الحسني، وفتحي غبن.
تنبعث الحياة وألحان الحرية من لوحات الفنانة تهاني سكيك التعبيرية والرمزية التي تمتاز بألوانها الحيوية، مستخدمة اللون الأزرق بكثافةٍ، في إضاءة للفضاء الذي يتسع على رحابته لعطاء المرأة الفلسطينية التي تجلس بثوبها المطرز تعزف لحن العطاء في لوحةٍ، ينبت الزهر بين يديها مثبتة عينيها كمن يبحث عن عزيز غائب، يحمل في داخله وجعًا يحاول إخفاءه، وفي الأخرى ترفع رأسها ويدها للأعلى وقد جمعت أمامها سلة من البرتقال في تصوير واقعي للمرأة الفلسطينية.
كما جسد الفنان فتحي غبن علاقة حب لاتنتهي بين الفلسطيني وأرضه، من خلال تفاصيل واقعية ودقيقة لموسم حصاد القمح، فيمكن للزائر أن يندمج مع سحر لون القمح الذهبي ورؤية الترابط بين المجتمع الريفي.
تنتمي مشاركة الفنان أحمد أبو الكاس للمدرسة التجريدية، تكوينات نقية للألوان والخطوط لا تبحث شكلاً معينًا، بل تجريدية بشكلٍ كاملٍ تشعرك بالتحام الألوان مع بعضها في تكوين اعتمد على اللون الأصفر الأساسي بالإضافة إلى اللون الأسود الذي يحاول من خلاله إخفاء الواقع.
وتمكن الفنان فايز السرساوي من إزالة الخط الفاصل بين الرسم والنحت، من خلال لوحاته التي تميزت بقيمتها البصرية الجمالية وتركيبها النحتي بخامات مختلفة، جمعت بين النحت المجسم على الجدار والتصوير اللوني البصري، لتصبح مشابهة لعالمنا المحيط الذي يجب أن نكتشف غموضه وتداخله كالبحث عن الهوية والذات.
أطلق السرساوي، دعوة للأقلام النقدية للأخذ بيد الحركة الفنية نحو الارتقاء وتطوير الساحة التشكيلية، واصفًا التجربة بأنها دعوةٌ للخروج من إطارٍ جغرافيٍ ضاقت به الجغرافيا ذاتها، لإعادة ترتيب وهندسة الواقع بما يتفق مع الرؤى والأحلام، واستشراف آفاقٍ فنيةٍ تؤكد أن الفنان الفلسطيني ليس جغرافيا فائضة عن الخريطة.
معرض "مقارنات تأملية" نُفذ ضمن مشروع "روابط معاصرة" الذي ينفذه محترف "شبابيك" للفن المعاصر، والدائرة الفنية للاتحاد العام للمراكز الثقافية في غزة، بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطان، ليشكل مساحة منحت الفنانين والفنانات، إمكانية التعبير عما يجول في مخيلتهم وتحفيزهم لتقديم أفكارهم، لإجراء مقارنة حرة بين خطين فنيين بهدف إثراء التجارب الفنية والاهتمام بمنتجاتها الجمالية والإبداعية.
اقرأ/ي أيضًا:
فيديو | رنا ترسم بالرماد حكايات عن الحياة والموت