هكذا فجأة ودون أسباب محددة، يظهر مشهد غناء الفلسطينيين المرابطين في القدس أمامي. ربما كان اللحن هو الخدعة التي تجعلنا نردد كلمات قد لا تعجبنا لو أننا قرأناها دون أن نسمعها مصحوبة بالموسيقى، هذا ما أفكر به حيال الأغاني كلها. لذلك أركّز دائمًا على الكلمات، عليها أن تقول شيئًا للقلب.. عليها أن تكون ذات معنى.
كيف سيكون صوت البلاد لو كانت تستطيع الكلام؟ وماذا ستقول لنا لو تمكنت من الاتصال بنا؟ حتمًا ستكون مكالمتنا الأولى معها طويلة وقاسية
"سوف نبقى هنا كي يزول الألم" لم أتخيّل أن تتمكن جملة واحدة منّي بهذه البساطة. الخوف من أن لا أكون مستعدة لقطع هذا الوعد للبلاد، ليس وعد البقاء فحسب، بل وعد تحمُّل الألم حتى يزول، فالبقاء هُنا بالأساس يسبب الألم، وما تحمُّل ألم البقاء إلا طريقٌ للتخلص من ألم الاحتلال. ويخطر لي هنا كم ألمًا على الإنسان أن يعيش أولًا في سبيل خلاصه من ألمه الرئيس؟! وكم عدد الأشخاص الذين هزمهم ألمٌ خاطئ بشكل مبكر، قبل أن يهزموا ألمهم الحقيقي؟ أخاف أن أكون منهم.
اقرأ/ي أيضًا: بين رام الله وغزة لعنة عاشق!
"اتصلت ع البلد؟" هكذا يختصر المغتربون ذكر أسماء أصدقائهم وأهلهم ويستبدلونهم بكلمة البلد، ورغم أنّك تعرف أنهم بسؤالهم يقصدون أهل البلاد، إلّا أن هذه الجملة المجازية تجبرك على تخيّل صوت البلاد، يا تُرى كيف سيكون صوتها لو كانت تستطيع الكلام؟ ولو تمكنت البلاد من الاتصال بنا فماذا ستقول لنا؟ حتماً ستكون مكالمتنا الأولى معها طويلة وقاسية.
الفكرة مخيفة إذًا. يرن هاتفك المحمول وإذ هي البلاد تتصل بك.. تعاتبك أو تشتمك أو تقول لك شكرًا، أو قد لا تقول شيئًا. ربما ستبكي فقط طوال المكالمة، تبكي من أجلك أو بسببك. ورغم أنّ مثل هذه المكالمة لم يسبق وأن حدثت، إلا أنّه يسهل عليّ الآن أن أتخيّل تأثير حدوثها؛ فهو تمامًا كتأثير سماع أغنية عنها.. أقصد عن البلاد.
كلُّ الأغاني في حُبّ البلاد هي مكالمات منها، هكذا أرى الأغنيات، مكالمات فائتة أو لم يرد عليها
كلُّ الأغاني في حُبّ البلاد هي مكالمات منها، هكذا أرى الأغنيات، مكالمات فائتة أو لم يرد عليها، وأقول فائتة لأنّه لا يمكننا الجزم بحدوثها، وإنّما نتخيّل هذا. ونتخيّل أنّ ما تقوله الأغنيات هو ما كانت تريد أن تقوله البلاد، البلاد التي لا تجيد إجراء الاتصالات أو ترك رسائل صوتية أو مكتوبة. تبدو لنا مثل الجدّات اللواتي لا يجدن استخدام الهواتف، ولكنّهن يجدن الغناء.
تنجح الأغنيات عندما يفشل أي شيء آخر، تنجح في جعلنا نبكي أو في مساعدتنا على التوقّف عن البكاء. ومثلما يسهل على الأغنيات أن تحُثّ قلوبنا على الحزن، فإنّها تتمكن وبسهولة من حثّها على الغضب بما يكفي للمشاركة في مظاهرة، أو التوجّه لأقرب نقطة مواجهة مع الاحتلال، أو كتابة نصّ في حب البلاد. وفي أبسط الأحوال قد تمنعنا أغنية وطنية في محل تجاريّ من شراء علبة عصير إسرائيلي الصنع، ورغم أنّ هذا تأثير هشّ، لأنّه ينتهي على الأغلب بانتهاء الأغنية، إلّا أنّه يستحق التأمل والبحث عن طرق للاستثمار.
يبدو سخيفًا أن نقول إنّ علينا البحث عن طرق لاستثمار مشاعر الحزن أو الغضب التي يولدها فينا سماع أغنية قبل أن تتلاشى، أن نمسك هذه المشاعر ونستغلها قبل أن تغيب، فالأغاني مثل المخدّر خلال العملية الجراحية، لا يمكن أن يستمر تأثيرها للأبد. بل وسيكون من غير المنطقي أن نتوقع حدوث ذلك.
ولكن من المؤكد أيضًا أنّ المشاعر التي تولّدها فينا الأغنيات لو فكّرنا حقًا بكلماتها ولو سمحنا لهذه الكلمات أن تتراكم في قلوبنا بشكل صحيح، لكُنّا أمنّا بها جديًا، فهي ليست مجرّد موسيقى حماسية أو موسيقى حزينة، بل هي كلمات البلاد لنا وحديثها معنا ومكالماتها التي لم نرد عليها بعد.
اقرأ/ي أيضًا:
فيديو | القناة الثانية تنشر مكالمة مسرّبة للهباش وضباط أمن سابقين بغزة