04-أكتوبر-2018

مستوطنة بزغوت على أراضي جبل الطويل

"عادي مابنخاف، بس ما بنلعب براحتنا" قال أطفال حارة جبل الطويل شرق مدينة البيرة، التي أُقيمت بمحاذاتها مستوطنة "بزغوت" أوائل ثمانينيات القرن الماضي. في الطريق إلى الحارة لم أود سؤال أحدٍ عن موقع المستوطنة، إذ خشيتُ ظن السوء بأني ذاهبة بنية أُخرى فيحصل المحظور.

وصلتُ أولاً إلى مقبرة البيرة، بعدها بقليلٍ وصلت إلى مفترق طرق، ثم إلى بوابةٍ خضراءَ مغلقة لمنزل مكون من طابقين ناديت: "أما من أحدٍ هنا.. مرحبا" لكن لم يسمع أحد. دُرْتُ حول المنزل حيث حجارة كثيرة كانت تغطي بئرًا مهجورًا، فوصلت لبيتٍ مهجور، حيث بعض الفتية وهم يتحضرون لجولة لعب، تسلّقتُ سور المنزل وفاجأت طفلاً كان يُسند ظهره إلى السور: "مرحبًا يا أولاد".

يخبرني أحدهم وهو محمد أحمد (15 عامًا) بأنهم يتعرضون للشتم أو التخويف من المستوطنين، كما أن الجنود قد يأتون في أي لحظة ويأمرونهم بمغادرة الشارع والتوجه إلى بيوتهم، ويُضطرون للتنفيذ فورًا.

سكان حارة الطويل في البيرة يحتاطون من الجواسيس وكل من يهمس لأطفالهم

يلمحني والده ويقترب ملقيًا التحية، فسكان الحارة لا يثقون بأيٍ كان ويحتاطون من الجواسيس وكل من يهمس لأطفالهم. عرّفته بنفسي وأعلمته بغايتي، فحدثني عن الحارة التي يسكنها أكثر من 400 نسمة، لكن حوالي 40 نسمة منهم تقع بيوتهم في متناول قناصة البرج العسكري، أو المتمركزين على بوابة المستوطنة، أو حتى المستوطنين أنفسهم.

اقرأ/ي أيضًا: يستطيع امتلاك مليوني شيكل ويفضل بيع الذرة

يهمس لي متوجسًا: "خلينا نمشي لقدَّام وأعرفك ع ناس ثانيين. شايفة العمود الي وراكي؟ بسجل حتى دبة النملة". حينها انسحبتُ من الشارع وتوجهتُ إلى بيت ناهدة عطوة، على مسافة أمتارٍ قليلة عن المستوطنة، وفي بهو المنزل صافحت والدتها المسنة، وجلسنا نتحدث عن يومياتهن إلى جانب المستوطنة.

تقول ناهدة إنها باقية في المنزل، ولا تخشى لا الجنود ولا المستوطنين الذين يحدث مرارًا أن يدقوا الباب عليها في منتصف الليل بحجة البحث عن مطلوبين أو راشقي الحجارة، فتخبر قائد الدورية: "أنا لو بعرف الأولاد الي بتقول أنهم بضربوا عليكو حجار بجيش أقلك، بروح أقول لأهاليهم يمنعوهم عشان سلامتهم مش عشانك".

تروي لنا اتهامها من قبل الجنود على البوابة العسكرية بمحاولة إطلاق النار عليهم، معتبرة ذلك استفزازًا هدفه التضييق عليها لمغادرة المنزل إلى أي بقعة أُخرى، وهو ما يجعل حياتها في هذا المنزل "على الأعصاب".

قبل عام 1967، كانت ناهدة تعيش مع إخوتها السبعة ووالديها، هاجر الإخوة وتزوجت الأخوات وتوفي الوالد، وبقيت ناهدة هنا رافضة تسليم الراية. تحكي ناهدة عن احتلال منزلها بالكامل خلال انتفاضة الأقصى في عام 2000 واستخدامه لأغراض عسكرية طوال 10 أيام.

عرض الاحتلال على ناهدة عطوة علاج والدها مقابل التنازل عن منزلها في جبل الطويل فرفضت

تقول ناهدة: "كان والدي مريضًا وعاجزًا ووالدتي عجوز مسالمة تكتفي بالدعاء. أتوا مرة بأواخر فصل الربيع وكان البرد شديدًا، اختاروا غرفة ليأتوا إليها على مدار 10 أيام من السادسة صباحًا حتى السابعة مساءً. لم أكن أتحرك بحريتي في المنزل، كانوا يفتحون علينا الأبواب والنوافذ في عز البرد ولا يأبهون لوالدي المريض، ويخرجون من الغرفة ليستخدموا أدوات المطبخ وكأن الدار دارهم".

اقرأ/ي أيضًا: صور | شوقية.. امرأة في وجه الاحتلال

وتحكي أنها التقت جنديًا في طريقها إلى المطبخ فسألته: "شو بتعمل هنا؟". فأخبرها أنه يريد سكيًا. أجابت، "سكّينة تبطّك بط".

بعد أن بلغ السيل الزبى، اتصلت ناهدة مع "الارتباط العسكري الإسرائيلي" وأخبرتهم أن جنودهم على بوابة المستوطنة احتلوا منزلها، فحضر ضابطٌ في اليوم التالي، وعندما رأى والدها عرَض أن تتكفل دولة الاحتلال بعلاجه مقابل مغادرتها المنزل وتنازلها عنه فرفضت ذلك بشدة. قرر الضابط إخراج جنود الاحتلال من المنزل، لكن إلى أين؟ إلى سطحه، حيث أقاموا مأوى للجنود ونقطة عسكرية ليومين، ثم فارقوا المنزل إلى قلب جبل الطويل حتى الآن.

تتحسر ناهدة على "أيام الزمن الجميل" قبل إقامة المستوطنة. وتُبين أن مبنى ما يسمى "مجلس المستوطنة" أُقيم على منطقة كانت تُسمى الحاووز، "كنت أقصدها أنا وصديقاتي أيام الطفولة لنجمع الزعتر وورق اللسان، وكنا نلعب هناك دار دور، ومرة قمنا بعمل فرن طيني وشوينا بطاطا. كانت الأرض فوق حلوة حرمونا منها ومن نسمات الهوا فيها ومنعونا نطل حتى ع شجرنا، وبطل حد يزورنا من وراهم" قالت ناهدة.

تدخل الرجل الذي اصطحبني إلى بيت ناهدة مشيرًا إلى أن ابنه منذ سنوات يُعاني من اضطرابات في النوم بسبب اقتحامات الجنود الليلية، كما أنه يوجد ثلاث مسنين في المنازل العشرة، وقد يؤدي إي إجراء عسكري كإغلاق الطريق التي تربطهم بالجزء الثاني من الحارة، وبقلب مدينتي رام الله والبيرة، إلى تأخير وصول الإسعاف إليهم أو نقلهم إلى المشفى، واصفًا ممارسات الاحتلال بحقهم أنها "انتقامية".

قصدنا بعدها - برفقة ناهدة - المنزل الأقرب في حارة جبل الطويل للمستوطنة والبرج العسكري على مدخلها، وهو منزل "قرعان"، ويُعدُّ منطقة عسكرية مغلقة في كثير من الأحيان. قرعنا الجرس تحت أنظار الجنود، فأخفيت دفتري وأغراضي قدر المستطاع وأنا أسأل نفسي عن رباطة جأش أصحاب المنزل الذين يعيشون من مسافة صفر عن فوهة بندقية.

جنود الاحتلال يستبيحون المنازل في جبل الطويل ليل نهار، ويتخذونها نقاطًا عسكرية

تعيش إكرام قرعان في المنزل مع عمتها. هنا لو تحرك أصبع أحدنا رأته أعين القناصة الذين يتمركزون على بعد 15 مترًا وربما أقل. تقول: "بيتنا مبني منذ العام 1961 وأرفض مغادرته مهما حصل، فهم يُريدون ذلك منذ زمنٍ طويل، لأن موقعه استراتيجي".

اقرأ/ي أيضًا: صور | كريمة قاهرة العسكر والمعسكر

تُبين أنه عندما تندلع المواجهات يكون سكان الحي هم الأكثر تضررًا. "لو تلاحظين فقد وضعنا على باب المنزل شبكًا لحمايتنا، ومنعًا للأضرار المادية المحتملة، عدا عن تغيير خزانات الماء والألواح الشمسية بشكل دوري؛ بسبب استهدافها من الجنود وقت المواجهات، وتغيير زجاج النوافذ، وكل ذلك مُكلف جدًا، والحال ينطبق على جميع الجيران في هذا الشارع".

لا تعرف إكرام الأمان حتى في قلب بيتها، "فهي لدى خروجها للعمل وعودتها إلى المنزل يوميًا، تواجه احتمال الارتقاء برصاصة الجندي الذي كلما فتحت باب المنزل يضعها في مرمى نيرانه".

[[{"fid":"74775","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":480,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

قادت هذه الظروف، إكرام وعمَّتها، إلى مزيد من الاحتياطات، فقد قامتا بتركيب كاميراتٍ حول المنزل، إلا أن هذه الكاميرات تعطّلت لاحقًا، ولم تهتم إكرام لأمرها ولا تنوي إصلاحها، عندما وجدت أن جيش الاحتلال يأتي من حينٍ لآخر لاستخدامها بحجة البحث عن "مطلوبين".

في العام 1994، عندما تم تقسيم المنطقة وفق اتفاقية أوسلو إلى "أ"، و"ب"، و"ج"، كانت دولة الاحتلال تريد أخذ منزل إكرام في التقسيم، لكنها وإخوتها تواصلوا حينها مع مؤسسات حراكٍ وتضامنٍ أجنبية، ومع بلدية البيرة، فصارت قرب المنزل فعالية تضامنية، على إثرها لم يُصادر المنزل.

تقول إكرام: "لا نشعر بالأمان هنا. مش عيشة. لا أمارس حياتي بشكل طبيعي، حتى أنني أواجه مشكلة مع الكهربجي، ومع حراث الأرض، ومع المواسرجي. الأول يريدني انتظاره على باب المنزل حتى يدخل خوفًا من تنكيلٍ أو رصاصة، والثاني يشترط عليَّ البقاء على رأسه حتى ينتهي من حراثة حاكورة الدار".

وسبق أن تعرض منزل قرعان للسرقة في عام 2011 على يد مجهولين. تُرجح إكرام تعاون السارقين مع الاحتلال، كما أن موقع المنزل ساعدهم في تنفيذ السطو المسلح بأريحية، وقد لاقت هذه الحادثة صدىً واسعًا في حينه، إذ قارب ثمن المسروقات من مصاغ ذهبي ومبالغ بعملات أجنبية حافة المليون شيقل.

منزل إكرام قرعان تعرّض للسرقة على بُعد أمتار من نقطة لجيش الاحتلال، وهي تتهم الجنود بالتعاون معهم

في منزل آخرٍ قريب من المستوطنة، تسكن هدى سعود التي عادت حديثًا من الولايات المتحدة، وقد تعرضت هذه السنة لإطلاق نار من الجنود عند البوابة المركزية، فظلّت تركض إلى أن وصلت منزلها. حتى أن إحدى الجارات نادت عليها لتُدخلها منزلها وتحميها من كثافة الرصاص، فلم تستدر بُرهة من رهبة الموقف.

وتُبين هدى أنها كانت قبل شهرين نائمة ليلاً فسمعت أصواتًا غريبة، "نهضتُّ من سريري لأُشعل الضوء فتفاجأت بالجنود أمامي، قلت لهم كيف تدخلون علي المنزل بهذه الطريقة؟ فأمرني أحدهم بالسكوت. اكتشفتُ بعدها أنهم فجروا باب المنزل الرئيسي وأحد الأبواب الداخلية. كما أنهم يلقون دون سببٍ قنابل الغاز في الشارع، ورغم إغلاقي الأبواب والنوافذ تتسلل الرائحة، وأنا مريضة بالقلب".

ما هي أمنيات النساء الثلاثة؟ تقول إكرام: "بتمنى في يوم أصحى الصبح وما ألاقي البرج". أما ناهدة فقالت: "عاليوم كل المستوطنة تروح. ونرجع زي زمان ويجن الجارات يزورني". فيما قالت هدى: "أتمنى أن يمد الله في عمري لأرى اللحظة التي يخرج فيها مستوطنو بزغوت من جبل الطويل ومن كل عموم الوطن".


اقرأ/ي أيضًا:

واد قانا.. هل تتحقق النكبة الثانية؟

فيديو | فلسطينيون يستولون على أراضيهم!

أصابع بوذا ويد الاحتلال في الأغوار