05-أكتوبر-2024
نساء غزة

(ultrapal) نساء من عزة يتحدثن عن الحرب الإسرائيلية

"ماذا يعني أن تكوني امرأة في زمن الحرب؟"، نساء من غزة يتحدثنّ لـ "الترا فلسطين" عن تجاربهنّ الصعبة التي عشنها خلال عامٍ من الحرب الإسرائيلية التي فتكت بهنّ وفرضت عليهنّ ظروف حياة قاسية وغير مسبوقة.

في الحروب الضحية الأكبر  هي المرأة، وفي قطاع غزة للنساء حكايات تبدأ ولا تنتهي من الألم، قتلاً وجرحًا، وفقدًا للأحبة، وكلهنّ عبثت بهنّ الحرب وذقنّ من الويلات صنوفًا شتى، فلا حياة مع شعور دائم بالخوف، وموت يلاحقك ولا تصدّه جدران منزل ينهار فوق رؤوس ساكنيه، أو قماش خيمة لغالبية غزيّة باتت نازحة، وفي الشوارع والمدارس والأسواق موت يخطف الأرواح وغالبًا الضحية من النساء والأطفال.

تتمنى آلاء عصام أبو طعيمة لو أن حياتها الحالية مجرد "كابوس" وتستيقظ منه مع شقيقاتها الأربع، ليجدنّ أنفسهنّ في منزلهنّ بمدينة رفح جنوب القطاع

يتيمات في خيمة

تتمنى آلاء عصام أبو طعيمة لو أن حياتها الحالية مجرد "كابوس" وتستيقظ منه مع شقيقاتها الأربع، ليجدنّ أنفسهنّ في منزلهنّ بمدينة رفح جنوب القطاع، وكأن شيئًا لم يحدث "بدون حرب ولا نزوح، ولا فقد لوالدهنّ، وقد بتن يتيمات".

آلاء، 15 عامًا، وأسيل، 14 عامًا، وتالا، 12 عامًا، ورهف، 9 أعوام، وديما، 7 أعوام، خمس شقيقات في سنّ الطفولة يعشنّ في خيمة بمنطقة المواصي غرب مدينة خانيونس بلا أبّ ولا أمّ، يواجهنّ وحدهنّ ويلات الحرب والنزوح.

 خمس شقيقات يتيمات في خيمة ولا معيل بعد استشهاد والدهنّ | أحلام حماد | الترا فلسطين
 خمس شقيقات يتيمات في خيمة ولا معيل بعد استشهاد والدهنّ | أحلام حماد | الترا فلسطين

وتعيش آلاء، كونها الأخت الكبرى، تجربة قاسية ربما لن تضاهيها تجربة أخرى أشدّ قسوة طوال حياتها، وقد وجدت نفسها تقوم بدور "الأبّ والأمّ" لشقيقاتها الأصغر، بعدما استشهد والدهنّ الذي كان المعيل الوحيد لهنّ، فيما الأم تعيش بعيدًا عنهنّ منذ انفصالها عن أبيهنّ قبل سنوات.

ووجدت المرارة طريقها مبكرًا لقلب آلاء، وبعيون يملؤها الحزن، تقول: "شعور صعب أن تكوني فتاة يتيمة ومسؤولة عن 4 أخوات أصغر منك وفي ظلّ الحرب".

وتقيم آلاء وشقيقاتها في خيمة بمخيم للأيتام، بعد نزوحهنّ من مدينة رفح على وقع العملية العسكرية الإسرائيلية البريّة في 6 أيّار/مايو الماضي ولا تزال متواصلة، إذ كان هذا النزوح الثاني للشقيقات، لكنه أشد قسوةً وعذابًا، بحسب وصف آلاء، "عندما نزحنا بالمرة الأولى من منزلنا كنّا برعاية والدنا، وقد توجهنا لمركز إيواء في مدرسة ومكثنا فيها شهورًا".

وفي يوم لن تنساه، تروي آلاء ما تعلمه عن تفاصيل استشهاد والدهنّ: "في ذلك اليوم ذهب أبي لخانيونس من أجل توفير المال الذي نحتاجه لتدبر شؤون حياتنا، لكنه لم يعد وعلمنا أنه استشهد ولم نتمكن من العثور على جثمانه رغم أننا بحثنا عنه عدة شهور، حتى أخبرنا شهود عيان أن الاحتلال قتله وجرى دفنه في مقابر جماعية أثناء التوغلّ البريّ بالمدينة".

سماح النزلي تتحدث عن أطفالها: ""ظلّوا 4 أيام تحت الأنقاض، وانتشلوا عبد الباري مقطوع الرأس، ولا أعلم أين دفنوهم، والقلق يقتلني من أن تكون جرافات الاحتلال جرفتهم عندما اجتاحت البلدة"

ومنذ ذلك الحين لم تعد آلاء مجرد طفلة وقد انقلبت حياتها رأسًا على عقب، ووجدت نفسها المسؤولة عن كل شيء بالنسبة لشقيقاتها من التنظيف والغسيل إلى توفير الطعام والمياه وكل احتياجاتهنّ الحياتية اليوميّة. وتقول تالا: "حياتنا وحيدات يتيمات قاسية ولا تُحتمل، ومستقبلنا مجهول ولا نعلم ما تخبئه لنا الأيام".

وتضيف أسيل على حديث شقيقتها: "فعلًا الحياة صعبة للغاية بدون أبّ وأمّ .. النهار تعب في التنظيف وجلب المياه والطعام، والليل مخيف جدًا بسبب صوت القصف والانفجارات".

حكاية ألم

بدأت فصول الحكاية المؤلمة للنازحة سماح النزلي منذ الشهر الأول للحرب عندما اضطرت مع زوجها المريض بالسرطان، وابنتيها رزان، 5 أعوام، وبيسان، 3 أعوام، للنزوح من منزلها شمال مدينة غزة إلى مدينة دير البلح وسط القطاع.

"كانت رحلة النزوح مريرة وشاقة"، تقول سماح، 34 عامًا، وقد اضطرت مع زوجها منير عفانة، 64 عامًا، وطفلتيها قطع مسافة طويلة سيرًا على الأقدام لتجاوز "ممر نتساريم"، الذي يفصل به الاحتلال القطاع إلى نصفين شماليّ وجنوبيّ.

لم يمض وقت طويل على وصول سماح وأسرتها لمستشفى شهداء الأقصى كنازحين في خيمة، حتى توالت عليها أخبار الأحداث المفزعة والدامية من مدينة غزة وشمالها، أيّ "دمار البيت"، لكن الفصل الأقسى في حكايتها مع الحرب كان استشهاد طفليها من زواجها الأول، فقد خطفت غارات جويّة إسرائيلية على بلدة بيت لاهيا شمال القطاع، أرواح طفلها عبد الباري أبو فول، 14 عامًا، وابنتها لمى، 16 عامًا، فيما نجت ابنتها سما، 17 عامًا، مع جروح غائرة وحروق شديدة.

 تعيل سماح النزلي زوجها المريض بالسرطان وطفليها ويقيمون بخيمة في مستشفى شهداء الأقصى-أحلام حماد-الترا فلسطين_0.jpg
تعيل سماح النزلي زوجها المريض بالسرطان وطفليها ويقيمون بخيمة في مستشفى شهداء الأقصى | أحلام حماد | الترا فلسطين

وبعيون غارقة بالدموع، تقول: "ظلّوا 4 أيام تحت الأنقاض، وانتشلوا عبد الباري مقطوع الرأس، ولا أعلم أين دفنوهم، والقلق يقتلني من أن تكون جرافات الاحتلال جرفتهم عندما اجتاحت البلدة"، وتحلم سماح بالعودة إلى الشمال ولو لمرة واحدة وأن تجد لشهيديها "عبد الباري" و"لمى" قبرين تزورهما لعلّ "نار قلبها" تهدأ.

وتستمر مأساة سماح التي وجدت نفسها المعيل لأسرتها، إذ زوجها الستيني مريض بالسرطان وبالكاد يقوى على خدمة نفسه، ونتيجة لعدم توفرّ العلاج والغذاء الصحي المناسب لحالته خسر أكثر من 20 كيلو غرامًا من وزنه، وتضطر الأسرة إلى الأكل مما يتوفرّ في "تكية المستشفى"، وتشير سماح إلى أن الطعام في التكيات غالبًا يعتمد على المعلبات ولا يتناسب مع مريض بالسرطان، وبعد لحظة صمت قصيرة أكملت: "ولا حتى مناسب لنا، فهذه المعلبات كلّها مواد حافظة ولا تصلح للأكل لفترة طويلة".

واضطرت الزوجة النازحة إلى العمل في مهن بدافع من ظروفها القاسية، من أجل كسب بعض المال توفرّ به احتياجات أساسية لأسرتها، فعملت في "تنظيف الملابس والمراحيض للنازحين في مستشفى شهداء الأقصى"، وتقول: "بعرف الشغل مش عيب بس والله بتعز علي نفسي .. الحرب دمرتني، كنا مستورين وراضيين بعيشتنا".

 مها وافي مسعفة وزوجها معتقل وتعيش واقعًا صعبُا بين عملها ومسؤوليات أبنائها الخمسة-أحلام حماد-الترا فلسطين_0.JPG
 مها وافي مسعفة وزوجها معتقل وتعيش واقعًا صعبُا بين عملها ومسؤوليات أبنائها الخمسة | أحلام حماد | الترا فلسطين

مسعفة والزوج أسير

ينقضي العام الأول من الحرب ولم تتوقف مها وافي يومًا عن عملها كمسعفة في جمعية الهلال الأحمر، وهي أمّ لأربعة أولاد وفتاة واحدة، وجدت نفسها مسؤولة عنهم بمفردها بعد اعتقال زوجها أنيس الأسطل، مدير الإسعاف والطوارئ بوزارة الصحة للمنطقة الجنوبية في القطاع.

تضع مها، 44 عامًا، اعتقال زوجها كأشدّ مصائبها بالحرب، إضافة إلى دمار منزلها كليًا جرّاء غارة جويّة، وقد نزحت بأبنائها 10 مرات تنتقل بهم من مكانٍ إلى آخر هربًا من حمم الصواريخ والقذائف.

في كل صباح تنطلق مها إلى عملها تنازعها مشاعر الخوف على أبنائها والتزامها بعملها الإنساني، وتقول: "لا يمكنني التقاعس عن نجدة الضحايا، وكثير منهم أطفال ونساء"، وتضيف: "هذا ما تعلّمته من أنيس، وكان يرفع شعار نداء الواجب وينطلق لمهام خطرة رغم أن منصبه يعفيه من العمل الميداني".

وبحسب الزوجة المسعفة، اعتقل الاحتلال زوجها أنيس عند حاجز نتساريم مطلع كانون الأول/ديسمبر الماضي، بينما كان متوجهًا برفقة مركبات الإسعاف بموجب تنسيق مسبق لإجلاء أطفالٍ مرضى وجرحى من شمال القطاع، ومنذ اعتقاله لا تعرف عنه أيّ معلومة، وما تسمعه من شهادات صادمة عن أسرى غزة وما يتعرّضون له من تعذيبٍ أودى بحياة الكثير منهم، يجعلها تعيش قلقًا دائمًا على مصيره.

ذاقت مها ويّلات الحرب، شهداء من الأقارب والأحبة، واعتقال زوجها، وتدمير منزلها المكوّن من طابقين، وعاشت مع أبنائها في خيمة تتركهم بداخلها وتقضي نهارها في عملها الميداني تتنقل بين استهداف وآخر، ولا تكتفي بإجلاء الجرحى وإنما تخفف عنهم نفسيًا، وتعود إلى أبنائها "مشحونة بضغوط هائلة" بحسب وصفها، غير أنها تتعالى على تعبها وتخلع معطفها الأبيض، وتبدأ مهامها كأمٍّ في إعداد الطعام على نار الحطب في ظلّ أزمة غاز طهي حادة.

تمرّ ساعات عملها ثقيلة تتنازعها الكثير من المشاعر الإنسانية الممزوجة بقلقٍ لا يفارقها منذ اعتقال زوجها، قائلةً: "هذا الرداء لا يحميني وقد سبقني زملاء شهداء، وقد تزيّنت معاطفهم البيضاء بدمائهم، فماذا لو استشهدت أو اعتقلت، من لأبنائي؟".

 من الفحر وحتى منتصف الليل تعمل أم علي في صناعة المفتول وبيعه وإعداد خبز الصاج على النار-أحلام حماد-الترا فلسطين_0.JPG
من الفجر وحتى منتصف الليل تعمل أم علي في صناعة المفتول وبيعه وإعداد خبز الصاج على النار | أحلام حماد | الترا فلسطين

شيف على الرصيف

قبيل الفجر، تستيقظ سهاد أبو عمشة، وتُعرف باسم بـ "أم علي"، وتبدأ يومها الشاق من أجل المساعدة في إعالة أسرتها، النازحة من بلدة بيت حانون شمال القطاع.

أمّ علي، 37 عامًا، هي أم لـ 11 ابنًا وابنة، وزوجة أولى لرجلٍ متزوج من امرأة ثانية، ويشارك في إعالة عائلة كبيرة تضم 62 فردًا من أشقائه وشقيقاته وأسرهم، وقبل اندلاع الحرب كان زوجها الموظف في حكومة غزة يمتلك مطعمًا، وقد اعتادت على مساعدته.

دمرت قوات الاحتلال المطعم ومنزل أمّ علي وأسرتها في بيت حانون، ووفقًا لها فقد بدأت رحلتهم مع النزوح منذ اليوم الأول للحرب، وتنقلت في محطات عدة قبل محطة النزوح إلى مدينة رفح التي استمرت 8 أشهر، واستنزفت كل مدخراتهم المالية، ولجأت إلى صناعة الحلويات الشعبية ليبيعها أطفالها في الشوارع والأسواق من أجل توفير المال للاحتياجات الأساسية.

تعمل أم ل
تعمل أمّ علي ليلًا وصباحًا في محاولة لإعالة عائلتها | أحلام حماد | الترا فلسطين 

وعشيّة الاجتياح البريّ لرفح، نزحت أم علي وأسرتها لمدرسة في خانيونس، ووجدوا أنفسهم بلا مال، وحتى المساعدات الإنسانية اختفت تمامًا بسبب إعادة احتلال معبر رفح، وتقول: "كان لا بدّ من إيجاد سبيل للتغلب على الظروف البائسة، وبدأ زوجي ببسطة شعبية صغيرة لبيع الفلافل، وعلى الجهة المقابلة كنت أنا على بسطة أخرى لإعداد خبز الصاج وبيعه".

وعلى وقع هذا الروتين القاسي خذلها جسدها في مرات كثيرة، وتضطر أمّ علي لتناول الأدوية المسكنة للأوجاع لتواصل مهامها اليومية الشاقة، وفي ظلّ هذه الحالة الجسدية بدأت في إعداد المفتول، وتقول: "رغم أوجاعي فكرت بالمفتول لأن دخلنا من الفلافل والصاج لا يكفي لتلبية المتطلبات اليومية الأساسية لأسرتنا".

من الساعة الخامسة فجرًا وحتى منتصف الليل، وأحيانًا أكثر من ذلك، يمتد يوم أمّ علي، وبقليل من الشرح تقول إن "يومها يبدأ بإعداد المفتول وبيعه حتى مغيب الشمس، وترتاح قليلًا لنحو ساعة لتبدأ مهمتها الأخرى في إعداد خبز الصاج، ولا تجد بعد هذا اليوم الطويل سوى 4 أو 5 ساعات للنوم قبل أن تدقّ ساعة العمل ليومٍ جديد".