ما تزال أحداث فجر الثاني والعشرين من شهر شباط لعام 2017 محفورة في ذاكرة المقدسية هنادي أبو الرموز، حيث أصوات جنود الاحتلال وجرافات الهدم التي داهمت المنزل وحاصرته طالبة من العائلة إخلاء البيت بأسرع وقت تمهيدًا لهدمه.
"المجندة دخلت على غرفة بناتي وصارت تمشط شعرها بغرفتهم قبال المرآة، وبناتي يبكين على البيت"
في تمام الساعة الثامنة والنصف من صباح ذلك اليوم، أصبحت أحلام وآمال وذكريات 10 سنوات مضت وعشرات أخرى حلموا بها أصبحت ركامًا في لحظة واحدة. "هدموا أحلامنا وتحويشة العمر كل ذلك ذهب بثواني " تقول أبو الرموز.
تروي أبو الرموز تفاصيل مفجعة عن حادثة هدم بيتها الذي بنته وزوجها بتعب وكد في بلدة بيت حنينا شمالي القدس المحتلة قائلة: "المجندة دخلت على غرفة بناتي وصارت تمشط شعرها بغرفتهم قبال المرآة، وبناتي يبكين على البيت، موقف بقمة الاستفزاز". طردت قوات الاحتلال عائلة أبو الرموز من المنزل، "ولم يخطر في بالنا سوى أن نحمل الحقائب المدرسية لأولادنا خاصة أن أحدهم كان يدرس الثانوية العامة ومتفوقًا" وفق أبو الرموز.
وأضافت، "منذ أن تم بناء البيت ونحن نسعى للحصول على رخصة البناء متبعين كل الإجراءات القانونية، حتى دفعنا حوالي 100 ألف شيقل مخالفات، أملاً في الحصول على رخصة البناء، وهي مهمة شبه مستحيلة على أهل القدس".
في ذلك اليوم، كان منتظرًا أن تُعقد جلسةٌ للمحكمة للبت بإمكانية منح ترخيص بناء لبيت أبو الرموز، إلا أن آليات الاحتلال سبقت قرار المحكمة وأصدرت حكمًا بالهدم ونفذته.
في ذلك اليوم، كان منتظرًا أن تُعقد جلسةٌ للمحكمة للبت بإمكانية منح ترخيص بناء لبيت أبو الرموز، إلا أن آليات الاحتلال أصدرت حكمًا بالهدم ونفذته
اضطرت هنادي وعائلتها للسكن في قسم من بيت أهلها مدة سنتين بعد الهدم، في محاولة لاجتياز الأزمة النفسية والمالية التي حلت بهم. تقول إنها حاولت مرارًا أن تكون قوية تساند زوجها وأبناءها، لكنها انهارت فجأة ولم تستطع أن تستعيد قوتها، فسرقة 10 سنوات مضت وسنوات أخرى قادمة لم يكن سهلاً عليها، فالبيت الآمن لعائلتها لم يعد موجودًا .
أُجبِرَت عائلة أبو الرموز لاحقًا أن تغادر القدس إلى كفر عقب القريبة (خارج الجدار الفاصل)، والملجأ الوحيد من القدس وإليها للحفاظ على الوجود والهوية المقدسية، إلا أن التأقلم لم يكن سهلاً على العائلة، فبينما هم في بيت حنينا تفصلهم دقائق معدودة عن البلدة القديمة بالقدس، أصبحت تفصلهم ساعات من الانتظار وحواجز الاحتلال ما بين كفر عقب و القدس، حيث البوابات الخاصة والتفتيش الدقيق والتعطيل متعمد والجنود المدججون بالسلاح.
تُطالب أبو الرموز، المؤسسات والجهات الحقوقية أن تتابع قضايا تراخيص المنازل المقدسية والمضي بالإجراءات القانونية قبل الهدم وليس بعده، "فأي جهود بعد قرار الهدم لن تجدي نفعًا" كما تقول.
من جانبها، حنان الدجاني (61 عامًا)، مازالت آثار الصدمة تُفقدها السيطرة على يديها فجأة بعد حوالي شهرين من هدم 3 منازل لأبنائها بعدما دفعوا كل ما يملكون وتداينوا ما تبقى ليبنوا "بيت العمر" لكل واحد منهم. كل هذه الآمال والأحلام انهارت في لحظة واحدة ببلاغ إسرائيلي وضع العائلة أمام خيارين أحلاهما مر، الأول: هدم المنازل الثلاثة وإلزام العائلة بدفع 250 ألف شيقل، والثاني: أن تهدم العائلة منازل أبنائها ذاتيًا بنفسها.
حنان الدجاني مازالت آثار الصدمة تُفقدها السيطرة على يديها فجأة بعد حوالي شهرين من هدم 3 منازل لأبنائها
أشارت الدجاني إلى أن أبناءها مازالوا يدفعون حتى اليوم شيكات بمبالغ طائلة كانوا قد دفعوها في منازلهم التي لم يعودوا يسكنوا فيها.
وفي غمرة ما تعيشه حنان وعائلتها بعدما أضحى أولادها الثلاثة في منازل بالإيجار في منطقتي رأس العمود وجبل المكبر، تلقت خبرًا مفجعًا آخر في تبليغ بهدم بيت العائلة القديم. واليوم تترقب العائلة بقلق شديد تطورات القضية بعدما أمهلتهم سلطات الاحتلال بشكل نهائي حتى شهر آذار/مارس 2022 للإخلاء والهدم. تقول حنان باكية: "أقصى أمنياتي أن أموت في بيتي وألا أموت في بيت مستأجر".
ماذا يحل بالنساء بعدما يهدم الاحتلال بيوتهن؟ أجاب على السؤال الباحث نبيل عبد الله، رئيس نقابة الأخصائيين الاجتماعيين والنفسيين - فرع القدس قائلاً إن سياسة هدم المنازل الهادفة لتهجير السكان الأصليين للقدس المحتلة تُخلُّ بالتوازن الاجتماعي والاقتصادي للعائلة المقدسية، فاضطرار العائلة للعيش مع الأسرة الأكبر والعودة لنطاق الأسرة الممتدة يفقدهم الخصوصية والطبيعة الاجتماعية التي كانوا يعيشونها في منزلهم قبل الهدم، وهذا يؤدي لخلل كبير في حياتهم.
وأضاف عبد الله، أن البيت بمفهومه الاجتماعي يشكل عنصرًا أساسيًا في حياة المرأة بشكل أهم من الرجل، "كما أن المرأة تقوم بوظائف عديدة في البيت أكثر من الرجل في ما يتعلق بالتربية والترتيب، حتى أن اهتماماتها بتفاصيل البيت تكون أعلى من الرجل، وبالتالي فإن وقع هدم المنازل وتأثيرها يكون أعمق كثيرًا على المرأة منها على الرجل" وفق قوله.
ورأى، أن لجوء العائلات المقدسية بعد هدم منازلها للعيش ضمن نطاق الأسرة الممتدة من شأنه أن يُسبب مشاكل اجتماعية وخلافات زوجية نظرًا لانعدام الشعور بالخصوصية والاستقلالية والاستقرار. "هذا عدا عن الصدمة وأعراض ما بعد الصدمة -الناتجة عن الهدم- وينتج عنها صدمةٌ عصبيةٌ وأعراضٌ وأمراضٌ في جسم المرأة، كلها سببها نفسي" بحسب عبد الله.
لجوء العائلات المقدسية بعد هدم منازلها للعيش ضمن نطاق الأسرة الممتدة من شأنه أن يُسبب مشاكل اجتماعية وخلافات زوجية
وتشير بيانات نشرها جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، أن الاحتلال هدم منذ العام 1967 حتى 2020 حوالي 2267 منزلًا في القدس المحتلة، تضرر منها 9851 مقدسيًا.
ووفقًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان، فإنَّ الحق في السكن هو حق أساسي للإنسان دون تمييز، إضافةً إلى أنه تم تطوير معايير خاصة بالسكن الملائم. أما في حالة القانون الدولي الإنساني، فقد قيَّد صلاحيات السلطة القائمة بالاحتلال، ومنعها من إحداث تغيير جغرافي وديموغرافي بالإقليم الخاضع لسيطرتها. كما حدد ميثاق روما الجرائم التي تدخل ضمن إطار اختصاصه متمثلة بجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم العدوان. وقد تم تحديد شروط تلك الجرائم التي تعتبر الصفة الأبرز لها بأنها ذات سياسة ممنهجة ومستمرة، والتي ترقى سياسة هدم المنازل تجاه المقدسيين لأن تكون من ضمنها.
كما يعتبر الحق بالسكن الملائم أحد الحقوق الأساسية للإنسان التي تم تقنينها بالإعلانات والعهود والاتفاقيات الدولية المختلفة، حيث يحظر المساس بهذا الحق خاصةً إذا جاء المساس ضمن سياسة تطهير عرقي وتمييز عنصري تجاه جماعة بذاتها، أو جاء كعقوبة جماعية. عمليات هدم المنازل تشكّل خرقًا واضحًا لإعلانات واتفاقيات حقوق الإنسان الدولية التي تكفل حق الفرد بالسكن الملائم خاصةً المادة 25/1 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 11(1) من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، والمادة 5/ه/3 من الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري لعام 1965 التي تضمن الحق بالسكن.
ويعتبر هدم المنازل عملاً منافيًا لأحكام القانون الدولي الإنساني، خاصةً ما نصَّت عليه اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين في وقت الحرب. وطبقًا لهذه المعاهدة، تندرج سياسة هدم المنازل ضمن المخالفات الجسيمة وأحد أشكال الإجراءات التعسفية التي تؤدي الى تدمير ومصادرة الملكية دون وجه حق ودون وجود أي ضرورة عسكرية تستدعي ذلك، فعمليات الهدم التي تنفذها قوات الاحتلال في مدينة القدس تخالف المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر على دولة الإحتلال تدمير أية أموال ثابتة أو منقولة خاصة بالأفراد أو الجماعات إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي ذلك لتحقيق أهداف عسكرية، الأمر غير الموجود في مدينة القدس، كون المنشآت الموجودة بها هي منشآت مدنية وسكانها مدنيين.
كما حَظَرَت المادة (33) العقوبات الجماعية للسكان المدنيين المحميين بموجب الاتفاقية، أو معاقبتهم عن أفعال لم يرتكبوها، أو التعامل بطريقة الثأر منهم ومن ممتلكاتهم.
اقرأ/ي أيضًا: