18-أغسطس-2024
مكان إعداد الطعام في شقة هدى (1)

مكان إعداد الطعام في شقة هدى

بقيت المواطنة هدى مرتجى صامدة مع عائلتها في غزّة، ولم تنزح منذ اندلاع الحرب الإسرائيليّة على غزّة، وتحاول التكيّف مع حياة لم يعد أحد يطيق التعايش معها، وقد لخّصت حال العسر هذه بـ "معاناة لا يتصوّرها أيّ عقل، إلّا من يعيش تلك الأيّام العصيبة".

هدى شابّة في مقتبل العمر، تعمل معلّمة للّغة الإنجليزيّة، ولديها طفلان: أحمد الّذي يبلغ من العمر أربع سنوات، ومحمّد الرضيع. تسعى هدى جاهدة لتوفير أقصى قدر من الاستقرار لعائلتها، رغم أنّ قواها تضعف بسبب شهور الحرب العصيبة. 

يمرّ الغزيّون الذين بقوا في شمال غزة بمرحلة عصيبة، فإضافة إلى القصف والمجازر المروعة، فإن انقطاع الطحين لمدة سبعة شهور بعد اندلاع الحرب، وإغلاق المخابز، زاد معاناتهم

تشعر هدى بالحزن العميق على صغيرها أحمد، فتقول: "كنت أطمح لتوفير كلّ ما يلزم لطفل في عمره، مثل تسجيله في مخيّم صيفيّ أو تنظيم رحلة ترفيهيّة له للاستجمام".

وتشفق عليه في مشهد يتكرّر كلّ يوم في هذه الحرب الطويلة، بينما تمسك أصابعه وتحدّثني: "هدول الإيدين المفروض بتعلّموا الخطّ العموديّ والأفقيّ، وبدلًا من ذلك يصرّ أحمد على أن يكون بجانبي، فيعرض مساعدته بوضعه الخشب والحطب لإيقاد النار. يمزّق الكرتون كأنّه رجل، وهذا يفرحني ويجعلني فخورة، لكن في الوقت نفسه أشعر بالقلق والتوتّر، لأنّي أريد أن أنتهي من مهمّة تحضير الطعام بأسرع وقت ممكن، ثمّ ما ألبث أن أطالب نفسي بالصبر وتشجيعه على البقاء معي".

الفطائر في زمن الحرب
أعدت هدى الفطائر لعائلتها بكل حب وتحدٍ، رغم قلة المكونات في زمن الحرب. 

أما طفلها محمد الذي لم يتجاوز من العمر العام وثلاثة أشهر، فهو العائق الأكبر في هذه المهمة، موضحة: "ما زال رضيعًا، أخاف عليه حين أشعل النار أن يعبث بها أو أن يتأذّى من الخشب، وحفاظًا على سلامته أمامي خياران، إما أن أستغلّ وقت نوم صغيريّ، وأسابق الزمن لتجهيز كل ما تتطلبه الطبخة، أو أن أسلّمه لزوجي ريثما أنتهي من الطهي".

تمسح عرق جبينها، ثم تواصل الحديث: "عشرة شهور مرت، وأنا لا أستوعب أني أمكث نحو ربع ساعة في إشعال النار، وقد يستغرق نصف ساعة، وهذا يستدعي أن يكون الخشب مقطعًا قطعًا صغيرة، مع توفر الكرتون والورق المساعد أو النايلون أو القماش، وقداحة من النوع الجيد، بينما في السابق كان يأخذ طهي شيء بسيط منّا عشر دقائق على الغاز، بينما على النار الآن قد ينضج الطعام بعد ساعة وأكثر، وفي أحسن الأحوال نصف ساعة".

هدى مرتجى: "في رمضان، كنّا كل يوم نفتح علبة واحدة فقط من المعلبات، إما بازيلاء أو فاصولياء أو فول، وأحيانًا قد لا نجدها، ومرّت فترة على النازحين عندنا أنهم يفتّون الخبز في المرق لمدة 30 يومًا"

تروي هدى تفاصيل صغيرة ومؤلمة في هذا الجانب من يومياتها، بالقول: "مرّت فترة كان يقطع فيها زوجي أميالًا من أجل جلب كيس من الحطب، وبما أنه لا مصدر دخل لدينا، كان يضطر للمشي بدلًا من المواصلات".

أما تعبئة الماء في غالونات، فهذه قصة أخرى، حيث تتطلب من زوجها حملها للطابق الثالث، ومن ثم تعبئتها في برميل آخر، ومجددًا تُعبأ بغرض توزيعها بين التنظيف والوضوء والاستخدامات اليومية الأخرى، إرهاق يتكرر جعله يعاني الغضروف، إلى أن بدأ الأمر يتحسّن حديثًا، بعد وصول خدمات مياه البلدية.

وكون هدى تعيش في شقة، فقد كانت مجبرة على أن تخصص الشرفة لإشعال الحطب، وتأسف أنها تحولت لمكان صار شكله مزعجًا، بحيث لا يصلح للجلوس أو للعب الأطفال، حسب قولها.

وقلّما استعانت بزوجها لمساعدتها على هذه المهمة، ففي معظم الأحيان هو مشغول بهمّ تعبئة الماء، قاصدًا مكانًا بعيدًا لتلبية حاجة مؤرقة من حاجات السكان، تضيف: "بطبيعة الحال كان يعود منهكًا، وعندئذ يصبح لزامًا علي أن أكتم في نفسي التعب، إشعال النار ليس سهلًا، وكغيري من النساء لا مفرّ من التكيّف".

المعلبات
تصنع الهدى الطعام لعائلتها باستخدام أصناف محددة 

أصناف محدودة.. ومعلبات تجلب المرض

تهاتف هدى أمها "أم الشهيد الصحفي ياسر مرتجى"، يوميًا، وتسألها: "ماذا طبخت اليوم يا أمي؟"، فتجيبها: "سنفتح علبة فول أو بازيلاء أو حمص"، ثم تعقبها بجملة بائسة "والله ملينا المعلبات يمّا"، بعدها تسأل أمها عن أحوال القصف، وما إذا كان هناك شهداء جدد في العائلة أو الأصدقاء، وتنهيان الحديث ببث الشوق للدار والحي والجيران، وكلاهما تصبّر الأخرى بالدعاء.

وذات مرة، اشترت هدى حبات معدودة من الخيار والباذنجان عندما سُمح بدخول الخضار إلى شمال القطاع، ومن فرحتها بها، أرادت أن تلتقط صورة معها "من كتر ما هم غاليين"، ثم تقول ساخرة: "رغبت في أن أقنع نفسي بأنها كمية كبيرة، فالتقطتُ صورة لها أمام المرآة".

ومن أعماق "همٍّ يُضحك" نسمع صوت ضحكتها، وهي تواصل: "أحترت إيش أعمل في هذه الخضار، آثرت أولادي وأعطيتهم إياها، وصحتين وعافية".

ويمرّ الغزيّون الذين بقوا في شمال غزة بمرحلة عصيبة، فإضافة إلى القصف والمجازر المروعة، فإن انقطاع الطحين لمدة سبعة أشهر بعد اندلاع الحرب، وإغلاق المخابز، زاد معاناتهم. 

وتتنهد هدى بمجرد أن تتذكر تلك الأيام: "أصعب مرحلة عندما كان يذهب الشباب إلى البحر، وينتظرون شاحنات المساعدات، ويضطرون إلى المبيت ليالٍ لتوفير كيلوات من الطحين عبثًا، في حين تستمر المجازر جرّاء قصف الاحتلال لكل من يوجَد هناك، وكانوا غالبًا يعودون بخفيّ حُنين".

وضعت هدى الخضار أمام المرآة لتقنع نفسها بكثرتها
وضعت هدى الخضار أمام المرآة لتقنع نفسها بكثرتها

تعود هدى بذاكرتها إلى بداية الحرب، قائلة: "بما أننا كنا عائلة صغيرة، كان لدينا في البداية مخزون جيد. ولكن مع تدفق النازحين إلى منزلنا، أصبح لزامًا علينا تأمين أكياس من الأرز والبقوليات والمعكرونة. ولم يكن توفير الطحين سهلًا، ومع مرور الوقت تعقدت الأمور، حتى أصبحنا نكتفي بوجبة واحدة فقط".

وتوضح في السياق نفسه: "عِشنا خوفًا لا يعلمه إلا الله، وهذا وحده أفسد شهيتنا، بِتنا لا نأكل سوى وجبة لمواصلة يومنا، كان الطعام محدودًا، وفي الوقت ذاته الذهاب إلى دورة المياه ليس سهلًا وله مشاق عديدة، كما أن فترة الليل نعيشها في أجواء الرعب، حيث القصف والأحزمة النارية تتواصل، وهذا في مجمله قاد إلى ما هو أسوأ".

أحمد يساعد والدته في إشعال النار
أحمد يساعد والدته في إشعال النار. 

وبحزن تتذكر، ما وصفته بـ"أصعب رمضان مرّ على أسرتها": "كنّا كل يوم نفتح علبة واحدة فقط من المعلبات، إما بازيلاء أو فاصوليا أو فول، وأحيانًا قد لا نجدها، ومرّت فترة على النازحين عندنا أنهم يفتّون الخبز في المرق لمدة 30 يومًا، تخيلي.. فقط لا غير، وكان كيس الطحين قد وصل ثمنه إلى ألف شيكل".

كان من الواضح أن التعب بلغ منها مبلغه، وربما كل ما تسجله هدى في هذا الجانب سيكون مهمًا للتأريخ لهذه المرحلة على صعيد الطعام وغيره: "أربعون يومًا عشناها من غير الثلاثة ’الأرز والطحين والمعكرونة’، نأكل الخبيزة والسماقية بالملعقة، ولا ثالث لهما، واشترينا أعزكم الله طعام الحيوانات "طحين الذرة"، فضلاً عن طعمه السيئ، فإنه يتسبب في عسر الهضم، كانت تلك المرحلة الأشد قسوة إطلاقًا".

تجيب هدى على سؤال، "كيف تتعاملين يا هدى مع ندرة المواد الغذائية في الأسواق؟"، قائلة: "أخذت السلع تشحّ شيئًا فشيئًا، مرّت ثلاثة أشهر لا يتوفر سوى سلّيق أو حميّض، والخبيزة، وهي نباتات بريّة تصلح للأكل، كنت أستوعب أكلة السمّاقية، لكن لم أكن أتحمل تناول الخبيزة على الدوام لأني لا أحبها، ولأنه ليس متاحًا غيرها كنت مجبرة على تناولها، وقتها كنت أكلها بالملعقة، حتى الأرز أيضًا كان من السلع الأساسية المفقودة، وإن توفّر فبسعر خيالي، الكيلو بلغ سعره 100 شيكل".

تصمت قليلًا قبل أن تتذكر انزعاجها من البازيلاء، وتبيّن السبب: "تعبنا كثيرًا من الاستمرار في أكلها، بسبب ما تحتويه من مواد حافظة مضرة كغيرها من المعلبات، وأُصبت بـ’القولون العصبي’، ولجأت للعلاج".

فرحة الحصول على بندورة
فرحة هدى بالحصول على بعض حبات البندورة

وتؤكد بنبرة من طفحَ به الكيل: "لا يمكن أن نألف نكهة المعلبات ولا رائحتها، نحن نواسي نفسنا بها، لقد عانيتُ صحيًا لشهر ونصف الشهر جراء تناولها، لم يكن أمامي سوى أن أستبدلها بالخبز والزعتر والزيت، حمدًا لله تحسنت نوعًا ما".

وتخشى على صغارها من المعلبات، مستدركة: "أحاول أن أطعمهم الخبز والزعتر لما به من فائدة، ولكن طبيعة النفس والجسم تحتاج إلى التنويع في مصادر البروتين والكالسيوم والفيتامينات والمعادن من أجل دعم المناعة، لكن ذلك كله لا يتوفر".

ومن مظاهر هذه المرحلة من الحرب، أن البدائل أصبحت هي الأساس، كاستخدام الماجي بدلًا من المرق، والمعلبات عوضًا عن الخضراوات الطازجة، والشطة بدلًا من الفلفل الحار، وحمض الليمون بدلًا من الليمون، وبودرة الثوم والبصل عوضًا عن الطازج منها.

وتحاول هدى أن ترّفه عن نفسها بكتابة منشورات خفيفة الظل بين الحين والآخر، مثل: "شغلتين ممكن يغيروا طعم المعلبات

الليمون للفول والحمص.. والثوم أو البصل للبازيلا والفاصوليا.. وكلاهما غير متوفر.. لأنه الصراحة طعم وريحة المعلبات غير مقبولة نهائيًا".

 ذات مرة اشترت هدى فروالة ولفرحتها وضعتها في يد طفلها وهوا نائم حتى ينهض على هذه المفاجأة.jpg
ذات مرة اشترت هدى فروالة ولفرحتها وضعتها في يد طفلها وهو نائم، حتى ينهض على هذه المفاجأة

دموع الأمهات تنهمر عند العجز

الأم المرضعة كحال هدى، تتضاعف معاناتها عادةً بسبب عدم توفر الغذاء، تشرح لنا ذلك: "إن لم تأكل الأم جيدًا، لن يكون الحليب مغذيًا ومشبعًا، ولا تتوفر فيه العناصر الغذائية اللازمة والمتنوعة، ما يؤدي إلى مزاج سيئ للطفل من بكاء مستمر وغيره، أنا وولدي نأكل لسد الجوع فقط".

وعن سؤال، كيف انعكس ذلك صحيًا على طفلك؟، تحكي لي قبل أن أكمل السؤال: "أُصيب ابني بالجفاف مرتين، بسبب عدم كفاية حليبي وفقدانه جودته، فيه يبّل ريقه لا أكثر، ولا بدائل متوفرة، وإن توفرت، فهي بسعر باهظ، وقد تُباع على بسطة، وفي هذه الحالة المنتجات غير موثوق منها، لأنها تكون عرضة لأشعة الشمس لفترة طويلة".

فكرت هدى في فطامه، ولكنها تراجعت، وذلك لعدم توفر بدائل أخرى من فاكهة وخضراوات وعصائر طبيعية، كما تقول، وبالنظر إلى ابنها الذي لم يتجاوز الأربع سنوات، كلما اشتهى الحليب شرب كميات قليلة فحسب، وبينما كانت تخبرني بذلك، سمعت أحمد يطلب منها "ماما بدي حليب".

مكونات طبخة القدرة
مكونات القدرة التي حصلت عليها هدى بصعوبة

ومما لا تنساه مرتجى من المواقف، أن ابنها أحمد اشتهى رغيفًا من الخبز ذات مرة، حين رآه في يد ابنة الجيران، وحينها أصر على أنه يريد مثلها، حاولت هدى إشغاله بما يتوفر عندها بلا جدوى، معقبة بمرارة: "كنت أضحك على نفسي وعليه.. ما بيدي حيلة".

وكأي طفل اعتاد الذهاب إلى البقالة في زمن قبل الحرب، كان دائمًا يلّح عليها "ماما بدي حاجة"، في حين لا يتوفر في السوق غير فتات من الجلي والمصاص، وبعض المكسرات.

وفي مثل هذه الأوقات تتشارك النساء الهموم، تخبرني بموقف آخر: "ذات مرة شكت لي جارتي أن ابنها بقي يقظًا حتى الساعة الواحدة صباحًا ونام جائعًا، ثم نهض والحال كما هو، لا طعام في البيت، سألتني وقتئذ ’ماذا أفعل؟’، قلت لها ’أنا مثلك’".

وتستطرد هدى أكثر: "في نهار آخر، التقيتُ الجارة عندما كنا نتناول ’طحين الذرة’، بكت حينها لأنها لا تستطيع توفير الخبز العادي، حيث كيلو الدقيق الأبيض وصل إلى 120 شيكلًا، ومن هذا الذي يستطيع توفيره!، بكيت معها، كانت لحظة في قمة العجز عن توفير أبسط ما يحتاجه أطفالنا".

وهنا يأتي إيثار الأمهات، إذ تفضّل هدى أطفالها على نفسها في أي شيء تحصل عليه، حتى لو كان طبق أرز، الذي كان يتوفر الكيلو منه بنحو 70 شيكلًا أو يزيد، تبعًا لقولها.

النار التي توقدها هدى في منزلها
النار التي توقدها هدى في منزلها

كانت فترة الانتعاش الوحيدة، عندما سُمح بدخول الخضراوات لشمال القطاع لفترة محدودة جدًا في شهر نيسان/أبريل الماضي، معقبة: "صحيح أن الأسعار كانت نوعًا ما مرتفعة، إلا أن شراء كيلو من كل شيء كان يقضي حاجتنا إلى حد ما".

ولوهلة، اعتقدت أن الخضراوات قد سُمح لها بالدخول تارة أخرى، عندما أخبرتها إحداهن بأنها حضّرت "قلاية البندورة"، ثم خاب أملها حين تبيّن أن تلك "القلاية" ما هي إلا "علبة صلصة بندورة وملعقة بهار ثوم" لأنه لا يتوفر أي نوع خضار في السوق.

وفي حسبة بسيطة يكاد المرء ييأس منها، لا تنفك عن ترديد هذه الحقيقة: "100 شيكل أصبحت بقيمة 10 شواكل، و 50 شيكلًا بقيمة 5 شواكل، كل يوم أعيد الكلام نفسه، ماذا عسانا أن نفعل، السيولة لا تتوفر، والأسعار ترتفع ارتفاعًا مأساويًا".

تغيّرنا من الداخل والخارج

تشتاق هدى كثيرًا في أجواء الحر لموسم البطيخ والشمام، بعد أن كان لا ينقطع الصيف الماضي، ولا تخلو أحاديثها مع عائلتها من إجراء المقارنات الصعبة بين ما كانت عليه الحياة سابقًا وما آلت إليه.

وتشرح فكرتها: "كلٌ منا يمتلك في هاتفه صورًا توثّق ذكرياتنا عن حياتنا قبل الحرب، في طعامنا وشرابنا والوفرة في المال والبركة، كنا نعيش في نعم كبيرة لا تُحصى، وكغيرنا من الأسر، لم أكن أعيش حياة رفاهية منعمّة، ولكن الأساسيات كلها كانت بين يدينا، الأرز والدقيق والسكر، لم ينقصنا شيء، كل طبخة تتوفر مستلزماتها بسرعة، وحين نتأمل حالنا الآن نرى أن الله يختبرنا بكل ما نمر به من ظروف".

هدى مع والدتها
هدى مع والدتها وهما تعدان الطعام 

وتشير إلى أن المقارنة لا تجري على مستوى الطعام فقط، وإنما حتى في الذهاب إلى الطبيب، فمسألة كهذه لم تتطلب أي تنسيق، حيث المواصلات مؤمنة والأسعار مناسبة للجميع، والقطاع الصحي أساسًا قائم، تتنهد بقولها: "الحياة كانت ميسرة تمامًا، نخرج بأمان في أي وقت من اليوم".

أتعبها النزوح من مكان لآخر، وأتعبها استقبال النازحين أيضًا، لا تجد فائدة من الكلام، لكنها تفرّغ عن جزء من ضغوط تحوطها أينما ذهبت، لتضعنا في صورة ما يحدث: "الجميع يشعر بالتوتر، كلنا نتسابق لتوفير أدنى مقومات الحياة، وقوت يومنا بصعوبة بالغة، كل بيت فيه أطفال وكبار سنّ، والشباب بدورهم يقطعون مسافات طويلة من أجل تأمين ما يلزم، وفي المقابل لا بد من تزويدهم بالطاقة والغذاء، تعبنا، وأصبحنا نستشعر أصغر نعمة لم نلقّ لها بالًا".

ماذا غيرت الحرب في عالمكم؟.. الحزن يشوب صوتها، ما أن تجيبني: "تغيرت مفاهيمنا وأولوياتنا، كل همنا كيف نوفر الماء، ونشحن البطاريات ونوفر لقمتنا، وكل خوفنا أن نفقد مزيدًا من الأحباء، تغيّر تصورنا للمستقبل، كأي أسرة حديثة العهد، كنا نريد أن نكمل طريقنا، الآن عدنا إلى نقطة الصفر والبدء من جديد، لكن واثقة أننا سنعمّر ما دمرته إسرائيل، رغم علمنا أن حياتنا القادمة ستختلف عما كانت عليه في السابق".

وترصد تلك التغيرات في قصة طال وجعها، تتمنى أن تُختم على خير: "تغيرنا من الداخل، تغيرت مشاعرنا ومخاوفنا وآمالنا، حتى الصغار صارت لهم مصطلحات جديدة، على غرار "مساعدات وطائرات وكوبونات"، ومن الخارج أيضًا تغيرنا، فقدنا أوزاننا بشكل ملحوظ، والشباب شابوا، تغيرت الملامح بسبب اضطرار كثيرين للإقامة في الخيام، والمشي لمسافة طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، الحديث يطول والله المستعان".