"الحرب قلبت حياتي رأسًا على عقب"، بهذه الكلمات القليلة عبرت جيهان أبو شمالة عن أثر الحرب الإسرائيليّة المتصاعدة في قطاع غزة على حياتها وأسرتها.
هذه الفلسطينية الخمسينية وجدت نفسها وحيدة في مواجهة قسوة الحياة، بعدما اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي زوجها في آذار/مارس الماضي، إثر حصار "مدينة حمد" شمال غربي مدينة خانيونس في جنوب القطاع، وقد فرضت على سكّانها مغادرتها بالمرور عبر ما يسميها الغزيون "حلابات" وهي بوابات إلكترونية ووسط تدقيق أمني.
جيهان أبو شمالة: حياة الخيمة والنزوح ليس سهلة، وتزداد قساة في غياب الرجل، حيث لا دخل ولا معيل
وبحسب رواية جيهان، 50 عامًا، لـ "الترا فلسطين": "كانت تلك الليلة أسوأ ليلة في حياتي، طوال الليل ونحن نصارع الموت، وبعد ساعات من حصار مدينة حمد حيث نسكن، أمرتنا قوات الاحتلال بالخروج والمغادرة عبر الحلابات، وقد اتفقت مع زوجي على مكان نلتقي به لو افترقنا ووصل أحدنا قبل الآخر".
عزلت قوات الاحتلال الرجال عن النساء، ووصلت جيهان مع بناتها إلى مكان اللقاء الموعود في قطعة أرض بمنطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، ولكن الزوج لم يصل، وتقول الزوجة: "كنا على الحلاّبات كيوم الحشر من شدة التدافع والازدحام، رجالًا ونساء وأطفالًا ومسنين، وكان زوجي عمر وهو طبيب متقاعد مميزًا بشعره الأبيض، ولم أتوقع اعتقاله، ولكن علمت لاحقًا أن الاحتلال اعتقله ولا أعلم عنه شيئًا منذ ذلك الحين".
أسرة في مهب الريح
كانت جيهان تعيش حياة تصفها بالهانئة الهادئة مع زوجها وأسرتها في شقة بمدينة حمد السكنية، حتى اندلعت الحرب، وشنّت قوات الاحتلال عملية عسكريّة بريّة على مدينة خانيونس في مطلع كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، واستمرت لأربعة شهور، ومن ذلك الوقت لم تعد حياتها هي الحياة التي تعرفها.
هذه المرأة المثابرة حاصلة على درجة الماجستير في الدبلوماسية والعلاقات الدولية، وزوجها طبيب متقاعد، وحياتهما الزوجية مستقرة، ولهما خمسة من الأبناء، بنتان وثلاثة ذكور، وتقول جيهان: "يعيش اثنان من أبنائي الذكور في الخارج، ولدي هنا ولد صغير، وابنتان إحداهن تدرس هندسة الديكور، والثانية متخصصة في التكنولوجيا والوسائط المتعددة".
جيهان أبو شمالة: ذاع صيتنا في وسط الخيام المحيطة والمجاورة كخيمة يتوفر بها طاقة شمسية، وتشحن الأجهزة بمقابل مبالغ زهيدة، وبهذه المبالغ كنا نشتري احتياجاتنا الحياتية اليومية من طعام وشراب
وبعد محطة نزوح في مدينة رفح أقصى جنوب القطاع كانت خلالها قوات الاحتلال تعيث فسادًا وتدميرًا في مدينة خانيونس خلال الاجتياح البري، انتقلت بعدها لممارسة الجرائم ذاتها في مدينة رفح، فغادرتها جيهان مع أبنائها نحو المواصي في غرب مدينة خانيونس، حيث تقيم في خيمة.
"حياة الخيمة والنزوح ليست سهلة، وتزداد قساة في غياب الرجل، حيث لا دخل ولا معيل"، وقد أدركت جيهان هذه الحقيقة وعايشتها، لكنها لم تستسلم لها، وفكرت فيما يساعدها وبناتها على تجاوز هذه المرحلة القاسية، وتقول: "لم تمر بي مرحلة أشد أو أقسى من النزوح والتشرد مع بناتي، وفي غياب زوجي المعتقل وأبنائي المسافرين".
الشمس كمصدر دخل
وكامرأة متعلمة مثقفة نظرت جيهان من حولها، فوجدت حاجة النازحين في الخيام لمصدر للطاقة من أجل إعادة شحن هواتفهم النقالة للاطمئنان على ذويهم ومتابعة التطورات الميدانية، وكل ما يتعلق بتداعيات الحرب، وكذلك شحن بطاريات صغيرة تستخدم ليلاً لإضاءة الخيام.
وفرت جيهان جهازًا لتوليد الطاقة الشمسية، وقد زادت في الآونة الأخيرة الاعتماد على لوحات شمسية من أجل توليد الطاقة من الشمس لدى فئات من المقتدرين على شرائه واقتنائه، في ظل انقطاع تام للكهرباء منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية عقب هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي.
ووفقًا لجيهان، فإن توفير هذه اللوحات بملحقاتها المطلوبة من أجل تحويل الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية، مكلف ماليًا، فقد ارتفعت أسعارها أضعافًا مضاعفة سواء عما كانت عليه قبل الحرب، أو حتى قبل بضعة شهور، وذلك بالنظر إلى عدم توفرها بالأسواق، وازدياد الطلب عليها.
ومثّلت هذه اللوحات بالنسبة لجيهان وأسرتها مصدر الدخل الأساسي، وتقول: "ذاع صيتنا في وسط الخيام المحيطة والمجاورة كخيمة يتوفر بها طاقة شمسية، وتشحن الأجهزة بمقابل مبالغ زهيدة، وبهذه المبالغ كنا نشتري احتياجاتنا الحياتية اليومية من طعام وشراب".
لكن الضغط الهائل على البطاريات خلال الشهور الماضية تسبب في عطبها، ولم تعد قادرة على شحن الهواتف والبطاريات، واضطرت جيهان إلى وقف العمل بالشحن ووفرت ثلاجة موفرة للطاقة وتعمل حاليًا في تبريد المياه العذبة للشرب، التي تشتريها وتفرغها في أكياس بلاستيكية وبيعها للمارة والنازحين، في ظل الحاجة الماسة للمياه الباردة في ظل ارتفاع كبير على درجات الحرارة.
وتجيب جيهان عن سؤال "ألم تشعري بالحرج كحاملة لشهادة عليا من هذا العمل البسيط؟"، بالقول: "ليس حرجًا، فهذا عمل يوفر لنا رزقًا حلالًا من أجل تلبية احتياجاتنا كأسرة بلا معيل، ولكن بالطبع تأثرت نفسيًا، فأنا التي كانت قبل الحرب تعيش في شقة كبيرة مجهزة بكل شيء، وأساعد في دخل المنزل من خلال الكتابة والتحرير، ولكنها الحرب التي "قلبت حياتنا" ولست وحدي، فالحرب أثّرت فينا جميعًا وعصفت بحياتنا وحاضرنا ومستقبلنا".
مهن الحرب
ومع استمرار الحرب وتوالي شهورها تولدت مهنًا لم تكن معروفة في غزة من قبل، إحداها هي شحن الأجهزة والهواتف النقالة عن طريق لوحات الطاقة الشمسية، وازدهرت مع عدم توفر مصدر للكهرباء، حيث قطعت إسرائيل خطوط الكهرباء عن القطاع، ودمرت محطة توليد الكهرباء الوحيدة، ومنعت توريد الوقود.
واقترض الشاب الثلاثيني محمد حماد مبلغًا من المال، وعانى بالبحث عن لوحة شمسية واحدة وملحقاتها، ويقول لـ "الترا فلسطين": "بعد فترة ليست قصيرة، وبمبلغ كبير يزيد أضعافًا عن السعر المعتاد عثرت على لوحة شمسية وبطارية وجهاز تحويل وشاحن، من أجل الشحن للجيران وتوفير احتياجات أسرتي اليومية".
محمد، وهو جريح سابق بنيران قوات الاحتلال الإسرائيلي خلال مشاركته في فعاليات انتفاضة الأقصى التي اندلعت في العام 2000، يتقاضى راتبًا بسيطًا من السلطة الفلسطينية كجريح، وبسبب تداعيات الحرب لا يتلقى راتبه بانتظام، واضطر إلى أن يقترض مبلغًا من شقيقه لشراء الطاقة واستخدامها كمصدر دخل.
ويعيل محمد أسرة مكونة من زوجته وطفلين، وبعد نزوح لأربعة شهور خلال الاجتياح البري الإسرائيلي لمدينة خانيونس عاد مجددًا لمنزله المدمر جزئيًا في وسط المدينة، وكغيره من سكان المدينة يعاني بشدة في توفير المياه بمقابل مبالغ مالية كبيرة، حيث دمرت قوات الاحتلال شبكات المياه الرئيسية، ويضطر السكان وحتى النازحين في المدينة لشرائها.
ويقول إن العمل في شحن الهواتف وبطاريات الإنارة يدر عليه دخلاً يوميًا بسيطًا يتراوح بين 20 و 30 شيكلًا، لكنه يساعده على توفير الاحتياجات الأساسية لأسرته.
وفرضت الحرب على الغزيين ظروف حياة قاسية، وفيما خسر كثيرون أعمالهم، فإنها أوجدت مهنًا وأحيت أخرى بسبب الحاجة الملحة إليها، وبالإضافة إلى مهنة الشحن بالطاقة الشمسية، ازدهرت مهن إصلاح الأحذية والملابس القديمة، وتنتشر على نطاق واسع البسطات التجارية الصغيرة، والباعة المتجولين، بعدما دمرت قوات الاحتلال المراكز التجارية الكبيرة والمحال والأسواق.