في نيسان من العام الماضي، أمرت النيابة العامة باعتقال الزميل رامي سمارة على خلفية قضية "حرية رأي وتعبير"، وكانت شريكته في "الجريمة" الزميلة نائلة خليل، وقد بات سمارة في "غرفة التوقيف" ليلة صعبة. يومها، قال نقيب الصحافيين ناصر أبو بكر إن "النقابة ترفض من منطلق مبدئي احتجاز أي صحافي على خلفية حرية الرأي والتعبير". وأكد مدير عام الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان د. عمار دويكأن "اللجوء إلى توقيف الصحافي على خلفية ما يكتب أو ما ينشر، هو أمر مرفوض، والأصل ألا توقع عقوبة حاجزة للحرية على خلفية كلمة أو كتابة".
ولم يفرج عن سمارة إلا بتدخل من الرئيس محمود عباس، الذي أمر بالإفراج عنه فورًا، وهذه الـ"فورًا" لم تمنع من أن يمضي سمارة ليلته كاملة "بسبب عدم اكتمال الإجراءات"!
إن جيلاً كاملاً تربى على شعار "ديمقراطية غابة البنادق"، يعيش اليوم "بطش قاعات الفنادق"
مرة تلو مرة، تطلّ تمظهرات السلطة وشكلانيتها، لتطغى على كل وعي ممكن بمجمل الأفكار التي نحتاج إلى التفكير فيها بصوت عالٍ.
إن جيلاً كاملاً تربى على شعار "ديمقراطية غابة البنادق"، يعيش اليوم "بطش قاعات الفنادق".
اقرأ/ي أيضًا: خطيئة حجب المواقع الإلكترونية
هناك من لا يتعب من إظهار النياشين على صدره، ليؤكد سيادته وسطوته، وليعيش فكرة السلطة القادرة على فعل ما تريد، رغم أنها لم تستطع حتى الآن تحقيق أي إنجاز حقيقي على الأرض، ما خلا آلاف البيانات والتقارير السنوية عن مختلف المؤسسات السيادية، التي تسرد "إنجازاتها" على ورق مروّس لا يقرأه أحد. وهي إنجازات تشبه زبد البحر؛ تراه عظيمًا، لكنه لا يكفي لوضوء مؤمن واحد.
ثمة من يعيش ويعتاش على أن هناك من يدبرون له مؤامرة للانقضاض على "إنجازاته"، حتى لو كان الخصم من أبناء البلد الذين يتمنون أن يكون التناقض الأساسي مع الاحتلال، ممارسة لا شعارًا. وأبناء البلد هؤلاء –لو كان يعلم المرعوبون- إنما يقولون ما يقولون، حرصًا على بلدهم، وكي يتربّى أبناؤهم في وطن حقيقي، لا مناكفة فيه ولا مماحكة إلا مع الاحتلال.
من سخرية هذا الزمن أن الاحتلال يطل من معسكراته على سقطاتنا ويبتهج. هذه غاية مناه: انشغلوا بأنفسكم، ونحن سننشغل بأنفسنا، وبكم، وسنقتلكم ونعتقلكم ونصادر أرضكم.
قبل بضعة أشهر، انضممت إلى قائمة كتاب الرأي في موقع الترا فلسطين.
والكتابة في ميقات معلوم أمرٌ مرهق، لا سيما في "بلد" حالة الحريات فيه لا تحتمل أن تكتب كل ما يخطر ببالك. وثمة رقيب داخلي مقصه أمضى من مقص الرقيب الخارجي. وهو رقيب "ربّيناه" بقوة ناعمة تقودها عقلية أمنية تعتبر النقد كفرًا، وخروجًا على الصف الوطني، هذه العقلية التي كانت "تبدع" في قضايا أسهل كثيرًا من كتابة رأي حاد قد لا يعجب ذوي السعادة والفخامة والسموّ.
وقد أضحت الكتابة النقدية كالمشي على شفير هاوية. وأنت تحتاج إلى كل مهاراتك في التورية والمجاز وكل ضروب البلاغة، كي لا تكون فجًّا، أو كي لا تثير شهية كتبة التقارير الضحلين، الذين يتقربون من مسؤوليهم زلفى بمقدار مهاراتهم في الوشاية.
إن العقلية الأمنية التي تسيّر السياسي، لا ترى خصمًا إلا في الداخل. إنها مهووسة بالمكائد والمؤامرات، وحلمها الوحيد أن يسبح الكل بحمدها، وألا يمتلكوا حق الرفض، هذا الحق الذي سال دونه دم كثير على مذبح القرار المستقل الرافض لأي إملاء أو وصاية.
إن العقلية الأمنية التي تسيّر السياسي، لا ترى خصمًا إلا في الداخل. إنها مهووسة بالمكائد والمؤامرات، وحلمها الوحيد أن يسبح الكل بحمدها
ولمّا لم يعد اعتقال هنا، أو استدعاء هناك، أو ترهيب، قادرًا على قطع أنهار كل الأصوات التي ترى في صرخاتها محاولة لتنقية ما علق بمياهنا الآسنة؛ فلا ضير من فكرة "عبقرية" أخرى، بقطع مصبات الأنهار، سواء كانت مياهها نقية صافية، أو حتى ملوثة.
اقرأ/ي أيضًا: شاشة بشعة في رام الله
لقد حُجبت عشرات المواقع بكبسة زر. قرر أحدٌ ما أن الخرس خير من الرأي، وأن رأيًا واحدًا يسبّح بحمد النظام، قادرٌ على تحسين صورتنا، كي نلتفت إلى التناقض الأساسي، الذي يمثله "المنسق" وأفيخاي، وأمثالهما(!)، وهم الذين يعيثون في العقول فسادًا دون أن يفكر أحد بمواجهتهم أو منعهم.
لقد حظر الاحتلال بعد احتلال عام 1967 الكتابة والكتب، وصار يعاقب الناس حتى على الكتابة على الحجر، لأنه أدرك "خطر" قيمة الكلمة على مشروعه. وإن كنا لا نضرب عن قوس واحدة مع نظامنا السياسي، فإن هناك من استلهم من المحتلّ أدواته وتمثلها، كما يقول فرانز فانون، من حيث لا يدري.
أكثر ما يؤلم في حكاية الحجب هذه، إضافة إلى السخرية الممضة والعارمة من حماقة الفكرة واستحالة تطبيقها، أنها انشغال بالصورة في المرآة، على حساب الجوهر، الجوهر المريض، الذي ما زال ممكنًا علاجه، قبل دفع الناس للجوء إلى الكيّ.
النقد انعكاس لحالة مرضية، والدواء بأيديكم.
لقد قال الفاروق عمر بن الخطاب: "رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي". وإن كشف المعايب خير من التطبيل لها والتهليل بحمد أصحابها.
أخيرًا، وعلى عكس صديقي صالح مشارقة، فإنني ما زلت قادرًا على الوصول إلى موقع الترا فلسطين المحجوب. ولعلها سانحة كي يراجع القائمون على أمر الحجب من لم يمتثلوا لفرمانهم، ويأخذوا على يدهم.
اقرأ/ي أيضًا: