تعدّت آثار حرب الإبادة المستمرّة على غزة منذ خمسة أشهر إلى المرضى النفسيين الذين يُقدّر عددهم بين 40-50 ألفًا؛ فالطواقم الطبيّة باتت منهكة، وتحوّل طاقم العمل إلى ضحيّة، كما أنّ عدم توفّر العقاقير، أحدث انهيارًا كليًا لنظام الصحة النفسية الذي يستعدّ أيضًا لـ "صدمات ما بعد الحرب" التي طالت الآلاف، وهي صدمات يقول مختصّون إنّها قد تتحول إلى اضطرابات الصحة العقلية مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، والاكتئاب والقلق.
خلال الحرب، تتضاعف مرارة ما يتجرّعه المصابون بأمراض نفسية في قطاع غزة. فتضرب قلوبهم نوبات الهلع، وتضيق حول أعناقهم حلقات الاكتئاب، وتحاصرهم أسوار القلق الشاهقة، وتستفرد بهم الذكريات الصادمة
وعندما يكون الموت هو القاعدة والحياة استثناء، فإنّ الحديث عن الحالة النفسية يبدو نوعًا من الرفاهية. وهذا ما يعايشه المواطنون في قطاع غزة بعد تدمير الاحتلال الإسرائيلي لمستشفى الطب النفسي الوحيد في الشهر الأوّل من العدوان، والعيادات الخارجية الخمسة في مختلف مناطق القطاع.
الانهيار قادم لمن سينجو
يقول محمد أبو السبح، أخصائي الصحة النفسية، لـ "الترا فلسطين" إنّ الحديث عن الصحة النفسية في زمن الحرب "رفاهية" مع الأسف والألم، وهذا هو التوصيف الفعلي لحالنا. مشبّهًا الواقع الحالي لأهالي قطاع غزة بمن يطارده وحش، وليس أمامه من سبيل إلّا الفرار. وفي هذه الحالة فإن الصراع الذي يديره العصب السمبثاوي اللاإرادي والقشرة الدماغية بوظائفها العقلية العليا تكون شبه معطلة، وتركّز فقط على هدف النجاة. وعندما يشعر الشخص بالأمان والنجاة، ينهار ويبدأ بالبكاء.
ويعتقد أبو السبح أنّ "الانهيار قادم لمن سينجو بعد الحرب" على حدّ توصيفه. ويشير إلى أنّ الناس في حالة تخدير انفعاليّ حاليًا، وهذا أسلوب دفاعي نفسي لا شعوري، لكن المصيبة ستحدث بعد انتهاء الحرب حين يستيقظ الناس على كوارثهم.
الحديث عن الصحة النفسية بغزة في زمن الحرب بات "رفاهية"
وفقد عشرات آلاف المرضى النفسيين في قطاع غزة الخدمة نتيجة إغلاق العيادات الخارجية، وفقًا للمختص أبو السبح الذي يبيّن أنّ مستشفى الطبّ النفسي كان مخصصًا للحالات المحوّلة للمبيت، وللحالات الشديدة، وبقصفه خسرت هذه الفئة من المرضى، الخدمة.
لكنّ الضرر الأكبر هو توقُّف العيادات الحكومية والخاصّة التي تتابع عشرات آلاف المرضى، ولم يبق إلّا في رفح عيادة تل السلطان الحكومية التي يقع عليها عبء كبير بسبب حجم النزوح الكبير إلى رفح، وعيادتان تقدّمان خدمات جزئية. وبعض المؤسسات مثل "عائشة" و"أطباء بلا حدود" التي تقدم خدمة محدودة.
ويقول إنّ غالبية المرضى النفسيين السابقين والحالات الجديدة تفتقد الخدمة، والعلاج يتم صرفه حسب المتوفر، وليس حسب ما تتطلبه الحالة المرضية، والمتوفّر لا يفي بالغرض.
مرضى يهيمون في الشوارع
الواقع الصعب للمرضى النفسيين في قطاع غزة بعد تدمير المستشفى، وإغلاق العيادات، بالتوازي مع الحصار المشدد الذي حال دون حصول المرضى على أدويتهم الضرورية التي لا تصرف لهم إلا بعد مراجعة وموافقة الأطباء النفسيين، جعل المرضى يهيمون في الطرقات وفقًا لأخصائي الصحة النفسية محمد الكحلوت، الذي يشير إلى أنّ المرضى النفسيين يتجرعون مرارة ما كانوا يعانون منه أصلًا قبل الحرب. وبعد أن نزحوا في الطرقات والشوارع زادت المُعاناة وتضاعفت الأزمة بمستوياتها المختلفة؛ فرديًا وأسريًا ومجتمعيًا، تضرب قلوبهم نوبات الهلع وتضيق حول أعناقهم حلقات الاكتئاب وتحاصرهم أسوار القلق الشاهقة، وتستفرد بهم الذكريات الصادمة في الصحو وفي النوم، وإن قدروا على النوم فسرعان ما تنهال عليهم الكوابيس، وتُلقي بهم الهلاوس في الركن النائي من الحياة، ثم توبخهم الأصوات الداخلية عند أقل هفوة، فيسقطون أرضًا، وحين يحاولوا النهوض يجدون أنفسهم في حُفر الشك من كل شيء حولهم، تشُلُّ حركتهم سلاسل الوسواس والاضطراب، مع ما يرافق ذلك من أفكار سوداوية.
ويشير الكحلوت إلى أنّ مهندسًا حضر إلى عيادته النفسية يريد صرف دواء مضادّ للذهان، لشقيقته المريضة باضطراب الفصام العقلي، ويقول إنّ كان يعرف الرجل قبل الحرب بهدوئه اللافت، ولكنه تحت ضغط ما تعانيه شقيقته المصابة بالذهان، والتي من المفترض أن تتلقى خدمات المبيت في مستشفى الطب النفسي، وجد الرجل ينفجر في طاقم العيادة الطبي ويرفع عليهم آلة حادّة مهددًا بقتلهم إن لم يتوفّر دواء "اللبوبنكس" لشقيقته.
ويضيف: صاح الرجل في الطاقم الطبي أنّ شقيقته تريد أن تقتل طفلته.. "يا عالم يا ظالم، أريد الدواء الآن". وللآسف الدواء غير متوفّر، والحرب والحصار يحول دون حصول المرضى على حقّهم فيه.
قصّة المهندس وشقيقته المريضة، واحدة من عشرات قصص تتكرر يوميًا في العيادة النفسية الوحيدة في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وتقدّم خدماتها لأكثر من مليون ونصف المليون نازح، معظمهم صاروا بحاجة لجلسات دعم وعلاج نفسي بفعل الضغط الحادّ الذي يتعرضون له على مدار الساعة أثناء الحرب.
يقول المختصّ الكحلوت إنّه سيكون من السهل علينا فهم تأثير خطورة عدم حصول المرضى النفسيين على حقّهم في خدمات الصحة العقلية سواء خدمات المبيت أو الأدوية أو التأهيل، إذا علمنا أن ما يقارب 40 ألف مريض نفسي تشكل أمراضهم النفسية خطرًا على أنفسهم وعلى المحيطين بهم.
مرضى جدد
الطبيب فضل عاشور، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، يقول إن ما يحدث في غزة بمثابة "صدمة جماعية حادّة ومتواصلة" تشمل الحرمان من كل شيء. كما أن تهديد الحياة، ومشاهدة الموت والقتلى كأمر روتينيّ، وضعٌ لا يمكن التكيّف معه، ولا القيام بآليات نفسية دفاعية لتجاوزها.
ويؤكّد أنّ الجميع في غزة يعانون في هذه الأوضاع من أعراض نفسية مرضية في اتجاهين. الأوّل الاضطرابات التكيفية، وهي القلق والاكتئاب النفسي، والانهيار الشديد في الضوابط الاجتماعية، والعنف، والرغبة في الخلاص الفردي، بالتوازي مع سلوكيات عدوانية أنانية. والغالبية يشكون من ذلك، ويحدّثونني عن ألم لا نهاية له، وكثيرون يتحدث عن رغبة في الموت، والانتحار.
الجميع في غزة يعانون في هذه الأوضاع من أعراض نفسية مرضية في اتجاهين
أمّا الاتجاه الثاني للأعراض النفسية المرضية فيتمثّل في الصدمات النفسية الحادّة، والتي تصل ذروتها وعلى نطاق واسع كحالة من الخدر العاطفي والصمت، والحديث عن أشياء مؤلمة وقاسية جدًا ببرود، كما لو أنها فيلم سينمائي لا يمسّه.
ويتوقع الطبيب فضل عاشور حدوث تغيّرات طويلة المدى على كثيرين سيصابون بما يعرف بـ "قلق ما بعد الصدمة" والذي سيطاردهم كقلق مزمن، وسيستمر لسنوات طويلة بعد هذا الحجم الكبير من المجازر. كما أنّ انتشار اضطرابات القلق والاكتئاب النفسي سيحدث تغييرًا في سلوك الأفراد، وتغيّرًا في الثقافة الجماعية.
بحسب الطبيب عاشور فإن من يعانوا أصلًا من اضطرابات نفسية مزمنة كالفصام العقلي واضطراب المزاج ثنائي القطب، والأمراض النفسية الأخرى يقارب عددهم الخمسين ألفًا على أقل تقدير في قطاع غزة.