داخل زقاقِ سوق الزاوية الشعبي بمدينة غزة، يفتحُ العم أبو جميل الريس باب متجره الصغير كل صباح، بشغفٍ متجدد لمقتنياته الأثرية القديمة، التي يحتضنها منذ ثلاثين عامًا.
في متجر صغير بسوق الزاوية وسط غزة، يحافظ "أبو جميل" بشغف على مقتنيات أثرية قديمة
"أبو جميل" الرجل النحيل القامة، البسيط الهندام، مع شيب خفيف غزا رأسه، يجلس على كرسيٍ بلاستيكي يضع عليه سجادة صلاة، ليعرض أمام رصيف محلّه الصغير مقتنياته فوق "بسطة" مليئة بالكتب والروايات والأثاث الخشبي والنحاسي؛ مقتنيات أثرية غبّرها الزمن تجذبك لتتأمل ما حملته من حكايات.
وقبل الولوج إلى داخل المحل، لا بدّ من أخذ فكرة عن سوق الزاوية الشعبيّ هذا، فبناؤه المعماريّ المميّز يعطيك فكرة عن الحضارات التي تعاقبت على البلاد. وفيه أماكن أثرية وتاريخيّة وزقاق ضيّقة تتفرّع عن أخرى، وسميّ بسوق الزاوية لما فيه من الزوايا التي تؤدي إلى بعضها. ففي كل زاوية يظهرُ لك محل تجاري، تخرج منه أصوات البائعين مرددين كلمات ودعوات إلى المارة للشراء.
صنعاتٌ ومحال تجاري مختلفة في هذا السوق بأبوابها المتراصّة، فتجد باعة الخضار واللحّامين ومحلاتُ العِطارة، ومحلات الحلويات ومطاعم الشاورما التي لا تغلق أبوابها، ومحلات بيع العطور والساعات، ومحلات الحياكة وبيع المطرزات والمشغولات اليدوية وإسكافي لخياطةِ الأحذية.
اقرأ/ي أيضًا: سوق الرابش.. ليست ذاكرتنا وحدنا!
وما إن تصل إلى محل "أبو جميل" ستسوقك أقدامك لداخله، بعد أن يشدُّ انتباهك نجفةٌ معلقةٌ في سقفهِ احتضنت مصابيحٍ خفيفة الإضاءة لكنها أعطت المكان لمسةً سحرية مميزة، وهذا ما يفعله الضوء بالأماكن وبذاكرتنا.
على جانبيك في المتجر الصغير، رفوفٌ بها كلُ أشكال الصحافة المطبوعة متعددة اللغات، ستجد كتبًا نادرة في الأدب الإنجليزي وكتابًا بالألمانية يعود لسنة 1890، ومطبوعات باللغة الفرنسية أوراقها رديئة الجودة، مضى على بعضها مئة عام. وزوايا أخرى لـ "راديوهات" وأشرطة وكاميرات قديمة، معلقات ومطرزات، وساعات منبهة ومفاتيح لبيوتٍ فلسطينية عمرها أكبر من عمر الاحتلال، وحُليّ وسلاسل فضية ومسابح، أباريق قهوة وأواني نحاسية، وأدوات نجارة وأدوات حدادة كانت تستخدم في تعليم الطلبة في مدارس الإعدادية للذكور، قبل عقد ونصف.
يثير انتباهك أغلفة مجلات قديمة اكتست صفحاتها الأمامية صور لزعماء العرب منهم جمال عبد الناصر وأخرى للملك الهاشمي حسين بن طلال، مثل مجلة "المصور" التي صدر عددها الأول عام 1924 عن دار الهلال التي تعدُ من أقدم المؤسسات الثقافية المصرية، وطبعات قديمة من مجلة "آخر ساعة" الأسبوعية، تعود إلى سنة 1964. وأعدادٌ أخرى لمجلات عربية متخصصة مثل "مجلة حواء" التي تتميز بألوان وصور غلافها لسيدات جميلات بأزياء وفساتين كلاسيكية من موديلات القرن الماضي.
وعلى تلك الرفوف، أعداد من مجلة "المختار" وهي النسخة العربية من المجلة الأمريكية "ريدرز دايجست"، والتي صدر أول عدد عربي لها سنة 1943 بمصر، وأعداد أخرى من مجلة "البيادر السياسي" و"الحرس الوطني" و"مجلة المستقبل الاقتصادي" و"مجلة الشباب" و"مجلة الكويت" و"مجلة حياة الناس". وأيضًا قصص عاطفية ورومانسية من السلسلة العالمية لروايات "عبير" و"أحلام"، التي يعتبرها البعض من أجمل ذكريات شبابه ومراهقته التي عاش فيها قصص الحب والمشاعر الفيّاضة.
في البداية، رفض أبو جميل وبشدّة الحديث معي بصفتي صحفية أرغب في عمل تقرير عن متجره، ظانّــًا أنني سألتقطُ بعض الصور وأرهقه بالأسئلة وأمشي دون أن أشتري شيئًا كما أشار في حديثه ساخرًا: "أنتم مزعجون.. تنصبون كاميراتكم وتغلقون باب رزقي ومتجري لساعاتٍ وتأخذون من وقتي الكثير، وتمشون دون أن تشتروا". شعرت حينها بغلاظتنا. تحدّثت معه قليلًا وبدأت أتسلل بأسئلتي عن كيفية جمعه كل هذه المقتنيات القديمة وكم من الوقت استمر ذلك.
يقول العم أبو جميل إن عمر متجره يزيد عن ثلاثين عامًا، وقد بدأ منذ صغره اقتناء "الانتيك" الذي يعتقد أنه له قيمة ولو كانت رمزية، وصار يوصي أصدقاءه وجيرانه وأقاربه بعدم رمي حاجاتهم البالية، فالناس عادة تتخلّص من الأثاث ومقتنيات المنزل عندما ترى أنها أصبحت عتيقة ولم تعد صالحة للاستعمال.
لكنّ أبو جميل له نظرته الخاصّة لمثل تلك الأشياء، فهو ينظر لروحها وعراقتها وصمودها، كما يقول، وكلما كان هذا الغرض قديمًا، ازدادت رغبته باقتنائه، ما مكّنه من تحويل هوايته إلى باب رزق يعتاش منه. ويضيف: "كنت أحرص دائمًا على الكتب التاريخية والأدبية والروايات التي قرأتها في حياتي من الضياع أو التلف، وأقتني في مخزني إرثًا وطنيًا من أوراق ووثائق تاريخية تؤكد أصول وجودنا في فلسطين التاريخية، وأحتفظ بشهادات ميلاد ووثائق فلسطينية تعود للحكم العثماني".
اقرأ/ي أيضًا: فيديو | مهنا.. والخواتم النادرة بغزة
المصدر الآخر الذي يحصل من خلاله أبو جميل على مقتنياته الثمينة، هو أسواق غزة الشعبية القديمة، فهناك تتم عمليات بيع وشراء الأغراض البالية والعتيقة، حيث يأتي الناس خصّيصًا لشراء ما يعجبهم بأسعارِ رخيصة. يقول أبو جميل الريّس إنه يزور دائمًا سوق "الْفراسْ" بغزة، حيث يجد فيه ما يحتاجه ويعجبه من بضائع وأثاث منزلي يودّ أصحابه بيعه بأسعارٍ رخيصة، فأشتريه وأحتفظ به.
الزبائن غالبيّتهم من الأجانب، أما أهل البلد فيزهدون بهذه المقتنيات، فهم بالكاد يؤمنون قوت عائلاتهم
النسبة الأكبر من مرتادي متجر الانتيك هم من صحفيون أجانب وسيّاح، يشترون منه ما يعجبهم ويلتقطون بعض الصور التذكارية، ويعودون لزيارة المكان طوال فترة تواجدهم في غزة. ويستذكر "أبو جميل" تلك الصحفية الفرنسية التي زارت متجره في أحد الأيام فاشترت بعض المقتنيات، وأعدّت تقريرًا صحفيًا عنه. وعندما عاد في اليوم التالي وجدها تنتظره ليفتح محله، وقد كانت تنتظره في المكان قبل طلوع الشمس.
يتحدّث "أبو جميل" بحزن شديد على الحال هذه الأيام، فقد قلّ الاهتمام بالأغراض الأثرية والمقتنيات القديمة في غزة، بعد أن كان يبيع عشرات القطع الأثرية والكتب والمجلات يوميًا، مع بدايات دخول السلطة الفلسطينية إلى القطاع. لافتًا إلى أنّ حال الناس في تلك الفترة كان ميسورًا من ناحية مادية، لذلك كان هناك اهتمام بتلك المقتنيات. أما الآن وبعد أحداث الانقسام وما تلاها من حصار وتضييق فقد "أبو جميل" الكثير من زبائنه، لأن كل هم المواطن الآن هو توفير قوت أولاده "مين رح يشتري كتاب أو أثاث قديم وأولاده جوعانين؟".
اقرأ/ي أيضًا: