تُسخّن "أم عمر" المياه أمام بوابة مدرسة لوكالة أونروا غربي مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، بإشعال ما يتوفّر من كرتون وأخشاب، لتبيع النازحين الماء السّاخن للاستحمام بسعر يتراوح بين خمسة إلى ثمانية شواقل للوعاء، ما يُمكنها من تأمين قوت عائلتها التي نزحت من بيت لاهيا شمال القطاع.
بيع مياه ساخنة للاستحمام، وحلاقة للزبائن في الشارع، وشحن أجهزة كهربائية، واعرف وزنك في الحرب، ونقل الرمل لتلطيف حرارة الخيام وبيع الأفلام والمسلسلات، كلّها أعمال استحدثها أهالي غزة في الحرب بحثًا عن الرزق
لم يكن تسخين المياه عملًا في غزة، لكن ظروف الحرب القاسية والنزوح، وانعدام الدخل، أجبر مئات آلاف الغزيين على التفكير بما يُدرُّ عليهم دخلًا يُمكّنهم من إعالة عائلاتهم، مع الانهيار الكامل للاقتصاد في غزة، وتوقّف عمل القطاع الخاص، ووقف صرف الرواتب الحكومية لموظفي حكومة غزة، باستثناء سلف مالية لعاملين في الصحة.
حلاقة في الشارع
نزح أحمد دبابش (30 عامًا) من مدينة غزة، خلال الشهر الأول من الحرب، متجهًا لمدينة خانيونس، ورغم يقينه أن الحرب لن تطول لهذا الحدّ، ولن يكون مضطرًا للعمل في مكان آخر، فقد جلب معه بعض معدات الحلاقة من صالونه في حي الزيتون شرق القطاع.
يقول أحمد دبابش لـ "الترا فلسطين" إنّ جلبه ماكينة الحلاقة معه لجنوب القطاع، أنقذ عائلته من الجوع والعوز، فمع نفاد ما لديهم من مال، بدأ بمحاولة توفير باقي مستلزمات الحلاقة وتوفير بطارية، ليعمل دون كهرباء.
الحلاق أحمد دبابش: لا أحدد ثمن الحلاقة لزبائني مراعاة لوضعهم المادي، وجميعنا نعيش حالة من الفقر
وأضاف دبابش: "تمكنت من توفير الحد الأدنى لممارسة مهنتي، وبدأت من المكان الذي نزحت إليه، وهو جامعة الأقصى غرب خانيونس، في البداية كانت الفكرة غريبة، فأنا الآن أحلق للزبائن في ساحة الجامعة بدون تجهيزات أو حتى مرآة، ولكن عندما شاهد النازحون مهارتي، صار عندي عدد كبير من الزبائن".
وأوضح أحمد أنّ عمله لم يستمر، إذ هاجمت قوات الاحتلال غرب خانيونس، ما اضطره للنزوح مع أهله لمدينة رفح جنوبًا، حيث الظروف أكثر صعوبة، ولكنّه استأنف عمله، ومع التهديدات باجتياح رفح، عاود النزوح باتجاه دير البلح وسط القطاع، وحاليًا يعمل على رصيف الشارع الرئيس في المدينة.
"اعرف وزنك"
وغير بعيد عن أحمد، تقف الطفلتان سما وتالا، أمام ميزان كُتب عليه "اعرف وزنك بشيكل بس". تقولان إنهما تعملان من الصباح وتعودان لخميتهما عند المساء، لتساعدا في إعالة أسرتهما بعد أن فقدتا والدهما أثناء نزوحه من الشمال، وعدم معرفتهما مصيره حتى الآن.
تقول تالا (10 أعوام) لـ " الترا فلسطين" إنهما اختارتا مكانًا مقابل بنك فلسطين في دير البلح؛ لتواجد الناس الكثيف قرب الصرّاف الآلي، كما أنّ الناس خسروا من أوزانهم جرّاء النزوح والجوع، وبات لديهم فضول لمعرفة أوزانهم.
ومقابل سما وتالا، يجلس الطفل معتز ووالده، وأمامهم حلويات مصنّعة منزليًا، وبعض المسليات. يقول معتز إن الحلويات صنعتها والدته، بعد أن بحثت عن حلويات رخيصة التكلفة، وموادها الأساسية متاحة في قطاع غزة.
الدخان الشامي
ويكتظ الشارع الرئيس في دير البلح هذه الأيام بباعة الدخان الشامي (العربي) المزروع والمعبأ محليًا. ورغم أنّ هذه الأصناف من الدخان لم يكن لها الكثير من الراغبين في القطاع، إلّا أن ندرة الدخان المستورد وارتفاع سعره بشكل جنوني، أجبر المدخنين على اللجوء للدخان الشامي "العربي".
ويعرض الشاب محمد راغب (29 عامًا) لفافات الدخان الشامي وعدة سجائر مستوردة، وبجانبها بعض المعلبات، على بسطة في سوق دير البلح، يكسب منها رزقه.
يقول لـ الترا فلسطين إنه لم يكن لديه أي فكرة عن إعداد سجائر الدخان الشامي الذي كان يباع بسعر زهيد، ويطلبه كبار السن فقط، ولكنه صار اليوم الخيار الأول للجميع، وتباع السيجارة الواحدة منه بنحو ثلاثة شواقل، فيما تباع سيجارة الدخان المستوردة بسعر يتراوح بين 29-32 شيقلًا.
تجارة الأفلام والمسلسلات
ومن المهن المستحدثة التي ظهرت في الحرب، بيع الأفلام والمسلسلات، حيث وضع الشاب محمد رزق (26 عامًا)، جهازه اللابتوب في منطقة الشاليهات في قرية الزوايدة وسط القطاع، وكتب على ورقة أن سعر الفيلم أو حلقة المسلسل الواحد بشيقل. وينتقل محمد بين مخيمات المنطقة الوسطى في سبيل تحصيل قوت يومه بهذه الطريقة.
وقال رزق في حديثه لـ "الترا فلسطين" إنّ الفكرة عنّت في باله بعد أن مازحه أحد جيران الخيام حين كان يراه يوزّع حلقات مسلسل ما: "لو ع كُلّ حلقة تاخذ شيقل بتصير غني"، مضيفًا: "عندما نفدت الأموال من عائلتنا بدأت التفكير بهذه الوسيلة".
وتابع: في البداية كنت مترددًا، وخجولًا، ولكن ظروف الحرب عصفت بنا، وكان الخيار إما الإقدام على العمل أو ترك العائلة دون طعام، وفعلًا بدأت، ولاقت الفكرة رواجًا، خصوصا مع انقطاع خدمات الانترنت عن معظم مناطق المنطقة الوسطى، كما أن الانترنت المتوفر بطيء جدًا، ولا يمكن من خلال تحميل فيديو قصير.
وفي منطقة النخيل وسط مدينة دير البلح، يقوم محمد عليوة بنقل رمال الشاطئ لمنطقة الخيام على عربة يجرها حصان، ويفرش هذه الرمال تحت الخيام، بعد أن يخرج الرمال الطينية الرطبة، وهي مهنة استحدثت أيًضا في الحرب للمحافظة على الخيام من الرطوبة والرائحة الكريهة، بحسب محمد.
ومع انقطاع التيار الكهربائي المستمر منذ بداية الحرب وتدمير كامل شبكة الكهرباء، باتت الطاقة الشمسية الطريقة الوحيدة لتوفير الكهرباء وشحن الهواتف، فظهر العديد من نقاط الشحن في شوارع القطاع، ووضعت تسعيرة لشحن الجوال، وتسعيرة لشحن البطاريات الأكبر حجمًا، وكذلك لأجهزة اللابتوب والأدوات المنزلية الممكن شحنها.