16-نوفمبر-2022
"صمتكم أكثر برودة من صقيع الثلاجات"، عبارة كُتب على إحدى اللافتات في وقفة أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم

"صمتكم أكثر برودة من صقيع الثلاجات"، عبارة كُتب على إحدى اللافتات في وقفة أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم (Issam Rimawi/ Getty)

قبل دقائق من بدء وقفة وسط مدينة رام الله، للمطالبة باسترداد جثامين الشهداء المحتجزة في ثلاجات الاحتلال، تهامست والدتا الشهيدين براء عطا وعادل عنكوش من قرية دير أبو مشعل، عن أعداد الحاضرين في الوقفة والمشاركة الخجولة.

وصل عدد الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال الإسرائيليّ، إلى 118 شهيدًا، إضافة إلى 254 شهيدًا جرى دفنهم قبل سنوات في مقابر الأرقام

ففي كل مناسبة جديدة للمطالبة بجثامين الشهداء، يُمنّي الأهالي النفس بأن يزيد العدد، وأن تتحوّل قضية المطالبة بجثامين أبنائهم إلى حالة مظاهرة عامة ومسيرة حاشدة يشارك فيها الآلاف، ليُشكِّل ذلك ضغطًا على السلطة الفلسطينية لتحريك الملف، وإجبار سلطات الاحتلال على الإفراج عنهم.

"صمتكم أكثر برودة من صقيع الثلاجات"، عبارة كُتب على إحدى اللافتات في وقفة أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم
"صمتكم أكثر برودة من صقيع الثلاجات"، عبارة كُتب على إحدى اللافتات في وقفة أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم (تصوير: محمد غفري/ الترا فلسطين)

والدة الشهيد براء عطا، حضرت للوقفة وقد ارتدت قلادة حُفر عليها صورة نجلها المحتجز جثمانه في ثلاجات الاحتلال منذ خمس سنوات، وكانت تحمل في يدها كيسًا بدا أنّ بداخله صورة نجلها، كي تحملها خلال الوقفة. تقول في حديثها لـ "الترا فلسطين": "ما تركنا ولا مدينة ولا واعتصام ولا وقفة من خمس سنين لحد (حتى) اليوم، إلا شاركنا فيها، على أمل الإفراج عن جثامين أولادنا ودفنهم بصورة لائقة".

والدة الشهيد براء عطا من دير أبو مشعل غرب رام الله
والدة الشهيد براء عطا من دير أبو مشعل غرب رام الله (تصوير: محمد غفري/ الترا فلسطين)

وبعد دقائق من بدء الفعاليّة، ازداد عدد المشاركين إلى بضع عشرات، وانضم إليهم مجموعة أخرى من أهالي شهداء جنين الذين وصلوا رام الله، وكلٌ منهم يحمل صورة نجله المحتجز في ثلاجات الاحتلال.

الشهيد يوسف صبح (15 عامًا) من بلدة برقين جنوب غرب جنين، يعدّ من أصغر الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال، وقد مضى على احتجاز جثمانه 14 شهرًا، وحتى اليوم لم تتمكن عائلته من معرفة مصير نجلها. تقول والدته لـ"الترا فلسطين": "لا أعرف حقًّا إن كان ابني شهيد أو أسير، فلم يُطلب منّا التعرف على جثمانه، ولم يصل إلينا فيديو أو صورة تثبت ذلك، ولا توجد لدينا أي معلومة".

قبل نحو أسبوعين توجهت والدة يوسف إلى الارتباط الفلسطيني وسألتهم إذا ما كان يتوفّر لديهم أي دليل عن استشهاد ابنها، لكنّها أشارت إلى أنّ الموظفين هناك دوّنوا رقم هاتفها، لكنّها لم تتلق أي اتّصال منهم بعد ذلك.

والدة الشهيد يوسف صبح حضرت من جنين إلى رام الله، للمشاركة في الوقفة
والدة الشهيد يوسف صبح حضرت من جنين لرام الله للمشاركة في الوقفة (تصوير: محمد غفري/ الترا فلسطين)

وتشير والدة الطفل الشهيد يوسف صبح إلى أنّ حافلة كاملة تقلّ أهالي الشّهداء الذين حضروا من أقصى شمال الضفة الغربية للمشاركة في الوقفة برام الله، وليس معهم أي من المسؤولين أو المؤسسات أو التنظيمات، مضيفةً "طرقنا كل الأبواب والجميع خذلنا، ولا نعتمد على أحد اليوم".

Issam Rimawi/ Getty Images
Issam Rimawi/ Getty Images

وشددت على أنّهم لن يملوا، ولن يتسلل اليأس إليهم، وسيظلون يطالبون بجثامين أبنائهم حتى آخر نفس، وتعهّدت بإخراج جسد ابنها من برد الثلاجات، لتزفّه شهيدًا في برقين.

ويتفق إبراهيم علي من مخيم الجلزون شمال رام الله مع والدة الشهيد يوسف، بأن من يحمل هم الشهداء المحتجزين اليوم هم الأهالي فقط.

(تصوير محمد غفري/ الترا فلسطين)
(تصوير محمد غفري/ الترا فلسطين)

وقال إبراهيم الذي حضر للاعتصام حاملًا صورة شقيقه "عبود قاسم"، إنه أخي الأصغر في ثلاجات الاحتلال "كان مثل صديقي". وأضاف لـ "الترا فلسطين" أنّ "إكرام الميت دفنه وهذا شهيد يجب أن يكرم وأن تخرج له جنازة تليق به، وهذا وجع لكل عائلة شهيد، انظر هنا أطفال صغار يطالبون بجثامين أبنائهم واخوتهم، تخيل أين وصلنا، نطالب بجثامين؟! كنا نطالب سابقًا بالإفراج عن الأسرى والآن نطالب بالإفراج عن جثامين شهداء أسرى!".

شقيق الشهيد عبود قاسم من مخيم الجلزون، خلال وقفة أهالي الشهداء في رام الله
شقيق الشهيد عبود قاسم من مخيم الجلزون خلال وقفة أهالي الشهداء (تصوير: محمد غفري/ الترا فلسطين)

ورغم توجّه عائلته إلى القضاء الإسرائيلي لاستصدار قرار بالإفراج عن جثمان "عبود"، إلا أن شقيقه إبراهيم لا يتوقّع من محاكم الاحتلال شيئًا. ويشير إلى أنهم وكّلوا محامين ورفعوا قضية على الشرطة (الإسرائيلية) وعلى الإسعاف لأنه لم يقدم العناية لشقيقه، ولكن دون جدوى... "أنت تتعامل مع عسكر وليس مع قضاء، والقضية الآن مربوطة بإتمام صفقة تبادل".

يروي إبراهيم أن جنود الاحتلال أعدموا صديق شقيقه؛ يزن الخالدي وهو في سنّ 14 عامًا عند مدخل المخيم قبل أربع سنوات، وظل شقيقه عبود يفكّر طوال الوقت في صديقه الذي فقده، إلى أن نفّذ في السابع من آذار/ مارس الماضي، عمليّة عند باب القطانين المؤدي للمسجد الأقصى في مدينة القدس.

المحامي محمد عليان ناشط في قضية المطالبة باسترداد جثامين الشهداء ودومًا ما يشارك في هذه الاعتصامات، فقد سبق واحتجز الاحتلال جثمان نجله الشهيد "بهاء" عدة أشهر بعد استشهاده في شهر تشرين أول/ أكتوبر 2015، قبل الإفراج المشروط عن جثمانه لاحقًا.

يقول عليان لـ"الترا فلسطين"، إن الاحتلال ما يزال يمعن في هذه الجريمة، لأنه لم يتلق الرد المناسب من الجانب الفلسطيني، حيث لم يتعامل مع هذا الملف كما يجب ولم يعطه حقّه، لذلك لا مساءلة للاحتلال.

محمد عليان، والد الشهيد بهاء
محمد عليان، والد الشهيد بهاء  (تصوير: محمد غفري/ الترا فلسطين)

والمطلوب بحسب عليان "ليس الخطابات وإنما خطوات عملية، فالأهالي يريدون معرفة إن كان أولادهم شهداء أم أحياء، لأن هناك حالات غامضة، لم يتأكد بعد من حقيقة استشهادهم، وأين هم إن كانوا شهداء في الثلاجات أم في مقابر الأرقام".

وتابع عليان: "نريد من المستوى السياسي أن يتحرّك على المستوى الدولي، ولا يجب أن نبقى صامتين". كما طالب والد الشهيد بهاء عليان الدبلوماسيين الفلسطينيين الذين يعملون في الخارج، ويتقاضون ملايين الدولارات أن يعملوا على هذا الملف، لأن والد الشهيد قد لا يستطيع أن يذهب إلى الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، فهو يريد أن يحزن ويشعر بالفقد ويهتم بالقضايا الشخصية، بالتالي هذه قضية عامة يجب على المستوى السياسي أن يحرّكها.

تجدر الإشارة إلى أنّه وعقب الوقفة في رام الله، الأربعاء، أصدرت عائلات الشهداء المحتجزة جثامينهم بيانًا جاء فيه: 


"مع كل صرخة يطلقها أهالي الشهداء ولا تُسمع 

مع كل كلمة لا تُقرأ

مع كل نداء لا يُستجاب

مع كل دمعة أم لا تُكفكف

تزداد طبقات الصقيع على أجساد أبنائنا الشهداء الذين ارتقوا وامتطوا النجوم ليصنعوا لكم حياة كريمة يسودها الأمان والاطمئنان. ويزداد عدد الشهداء الذين تشتاق الأرض إلى احتضان جثامينهم الطاهرة، يتكدّسون فوق بعضهم البعض في ثلاجات مهترئة ضيقة شديدة البرودة، شهداء وشهيدات أطفال وشيوخ، دون أي اعتبار لاي كرامة وأي دين وأي عرف.

كلّما كتبنا ولم تُقرأ كلماتنا يتعاظم حزننا، ويكبُر خوفنا من مصير أبنائنا، وتتكاثر الأسئلة التي توخز ضمائرنا في الصحو والمنام دون أن تلقى أي إجابة شافية تُعيننا على الصبر واحتمال الفقد الملتبس: هل أبناؤنا أحياء أم شهداء؟ هل هم في مقابر الأرقام أم في الثلاجات، هل أجسادهم كاملة ما زالت أم خضعت لسرقة أعضاء أو تشويه، ما الذي تُحدثه طبقات الصقيع المتراكمة على أجسادهم من زمن غير قصير، تحت أي ظروف دُفنوا في مقابر الأرقام؟ هل جرفت السيول رفاتهم؟ هل افترست الوحوش أجسادهم؟ متى تُغلق القبور المفتوحة، متى "تفرح" بقبلة" الوداع؟

عذرًا أيها الناس..

لا نقصد إثارة مشاعركم وأحزانكم، بل نقصد القول وبقوة إن صرخاتنا ما تزال عالية ولم تُسمع، ونداءاتنا قوية ولم يُستجب لها، وكلماتنا تكرر نفسها في كل مرة ولم تُقرأ وإذا قرئت لم تُفهم. وأسئلتنا تتكاثر وتزداد وخزًا وألمًا دون أي جواب، "قضيتنا تخصخصت" وباتت خاصة لعائلة الشهيد وفقط، كما قضية الأسرى الخاصة بعائلاتهم وحسب، لا يُضعفنا ذلك لكنّه يُحزننا، لا يثنينا عن إصرارنا على مواصلة معركة الدفء لكن يقلقنا الشعور"يا لوحدنا".

عذرًا أيها الناس؛ قضيتنا قضيتكم، معركتنا معركتكم، وجعنا وجعكم، أبناؤنا الأقمار أقماركم، ولا مكان للخصخصة في القضايا الوطنية، ولا فائدة من التفريق بين قضية وقضية، ولا بين وجع ووجع، ولا قوة لفئة تتوجع دون مشاركة الكل الوطني، هذا نداؤنا ليس الأول ولن يكون الأخير، هذا بياننا المقتضب والمختصر، هذه دعوتنا، تلبية لنداء أطلقه الأسير الحر سامر العيساوي الذي يخوض معركة الدفء للجثامين بأمعائه الخاوية. هذا إعلاننا للمرة تلو المرة أننا لن نهدأ ولن نكل ولن نتوقف عن الفعل من أجل إنجاز شعارنا الموجع "بدنا ولادنا". هذه دعوتنا لان نصرخ معًا في وجه كل من أدار ظهره إلى وجعنا، محليا ودوليًا، باننا لن نترك أبناءنا فريسة لصقيع الثلاجات، ولمبضع سارق الأعضاء، هذه دعوتنا إلى العالم بأن يصحوا من غفوته، ويلتفت إلى ما يسببه الاحتلال من جرائم بحق الإنسانية جمعاء.

أما وقد خلا البيان -خروجًا عن المألوف- من الكلمات الإنشائية والخطابية والمقدمات التقليدية، ومن المطالب المتكررة فإنه دعوة صريحة لأن لا تكتفوا بقراءة الكلمات والنصوص، فهي لوحدها لا تجلب ما يكفي من الدفء لأجساد أبنائنا وقلوب أمهاتنا، وقد آن الأوان لتوحيد الفعل والوجع".