يقوم متن رواية الياس خوري "أولاد الغيتو- اسمي آدم" (دار الآداب، 2016) على دفاتر تركها آدم دنون، بائع الفلافل الإسرائيليّ في نيويورك، والتي سلّمتها سارانغ إلى أستاذها خوري بعد موت آدم منتحرًا في شقته، في استلهام لميتة الشّاعر الفلسطيني راشد حسين.
الصمت وسم بداية التراجيديا الفلسطينية، حيث حوّل الحكم العسكري الفلسطيني الباقي على أرضه إلى حاضر-غائب
الدفاتر تبدأ بالبحث عن قناع يروي من خلاله آدم حكاية الشاعر الأمويّ وضّاح اليمن الذي أوصله حبّ روضة إلى الذوبان الكامل، ليعود ويخرج منه إلى حبّ أم البنين، زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك، حيث ينتهي ميّتًا في أحد صناديق ثيابها، بعد اكتشاف الخليفة لوجوده هناك، فيأمر بدفنه الصندوق وهو داخله، فيموت الشّاعر على طريقة أبطال غسان كنفاني، دون أن يصدر صوتًا.
تُبتر الرواية، ولا ندري هل حدث ذلك البتر لعجز آدم عن إيجاد معادل لفكرة الضحية التي يريد الوصول إليها، أم بسبب انشغاله المفاجئ بحكايته الشخصية، بعد لقائه من جديد بعرّابه وأستاذه الأعمى مأمون. اللقاء هو الآخر يرينا أن حكاية آدم نفسه مبتورة أيضًا!
ستعود دفاتر آدم إلى حكايته الشخصية حين يعترف له مأمون، في ذلك اللقاء النيويوركي، بأنّه وجده في أيام النكبة فوق جثّة امرأةٍ، فأخذه إلى غيتو اللدّ الذي أنشأه الصهاينة للفلسطينيين الباقين في المدينة، وهناك سوف تتبناه منال، زوجة الشهيد حسن دنون، وسوف تحاول أن تسمّيه على اسم أبيه الشّهيد، بينما أراد مأمون الأعمى أن يسميه ناجي كدلالة على نجاته، في حين اتفقت الآراء على تسميته آدم لأنه أول مولود في الغيتو. يقول: "آدم هو الاسم الأكثر تعبيرًا عن حقيقتي" (ص 168).
قصة البدايات التي رواها مأمون كانت الشّرارة التي أشعلت ذاكرة آدم فبدأ بنبش ماضيه الشخصي، بكل ما فيه من تقاطعات عامة مع سكّان الغيتو في لحظة نكبة 1948، لتنبني من خلال ذلك أحداث الغيتو والتهجير ومذبحة اللدّ المجهولة.
تنشغل رواية "أولاد الغيتو" بغيتو اللد الذي صنعه اليهود النّاجون من غيتو وارسو
انفجار آدم بالحكاية الفلسطينية بعد صمت طويل، مرادفٌ لنظرية أستاذه مأمون الأعمى الذي كان يبحث عن صمت الضحية في شعر محمود درويش. الصمت وسم بداية هذه التراجيديا، حيث حوّل الحكم العسكري الفلسطيني الباقي على أرضه إلى حاضر-غائب، كما هو منصوصٌ عليه في قانون مصادرة الأملاك. صمت الضحية أو تصميتها كان ضروريًا لولادة المشروع الصهيوني القائم على محو اسم البلاد وهويتها وتغييب أهلها. فلسطين صارت إسرائيل، والفلسطينيون الباقون صاروا "عرب أرض إسرائيل".
يذهب آدم دنون إلى أول الحكاية، إلى غيتو اللد الذي صنعه اليهود النّاجون من غيتو وارسو. هناك ولد آدم، كما أفهموه، أو هناك ولد مجازيًا كما سيعرف بعد لقائه بمأمون. لذا يجمع نثار الحكايات عن شخصيات الغيتو؛ إيليا ومنال ومأمون الأعمى.. إلخ. وسوف يروي كيف واجهوا الأهوال في تأمين الماء والغذاء، وكيف تحوّلت مدينتهم إلى مجرد غيتو مسيّج بالأسلاك، وكيف فاضت الجثث في الطرقات والبيوت.
سوف يروي لنا زواج العجوز إيليا بطشون من الصبية الأرملة خلود، إذ يُعلن إسلامه ويتخلى عن صفته كرجل دين مسيحي. يسمّيه الناس ساخرين بـ"الحاج صبابة"، وحين يموت سوف يلف بكفن على الطريقة الإسلامية، ويصلّى عليه في الجامع، ثم سيحمل نعشه إلى مقبرة الروم الأرثوذكس.
كما نتعرّف على مفيد شحادة، الفتى الذي مات مصلوبًا كالعصفور على الأسلاك الشائكة التي تسيّج الغيو، بعد أن صدّق إنسانية الصهاينة، لكونه كان يعرف سيغفريد ليهمان، الصّهيوني "الإنساني" الذي كان يدعو إلى التعايش بين الشعبين، والذي أعطى الفتى رسالة لشموئيل كوهين (مولا)، القائد العسكري للحملة على اللد. قتل الفتى رغم الرسالة.
ينسف إلياس خوري الرواية الإسرائيلية لنكبة مدينة اللد، حين يوضح أن ما جرى هو مذبحة كبرى
كذلك سوف نتعرّف على عمليات جمع جثث ضحايا احتلال المدينة وإحراقها، التي أوكلها الصهاينة لأبناء الغيتو في ما يشبه السُّخرة. مراد العلمي الذي عاش تلك التجربة سوف يروي ويبكي. هو الآخر كان صامتًا كل تلك السنوات ولم يفتح خزائن ذاكرته لآدم إلا بسبب توريطه في الحكاية. مراد يقول: "هكذا تعرّفت على أهل اللد جثةً جثة" (ص 375). كما يحكي عن منع جيش الاحتلال لفريق جمع الجثث من البكاء على الضحايا.
عمليات جمع الجثث تنسف الرواية الإسرائيلية لنكبة مدينة اللد، حيث تعلن الأرقام الصهيونية أنّ عملية احتلال المدينة استمرت يومين فقط، ولم يسقط فيها إلا 250 فلسطينيًا، سيتحول همّ آدم في دفاتره إلى نسف هذه الرواية، والتأكيد على أن الرقم أضعافٌ مضاعفة، لأن عملية تنظيف المدينة من الجثث وإحراقها استهلكت شهرًا كاملًا، وهذا وحده يكفي لمضاعفة الرقم. أما الوصول إلى تلك النتيجة فيتم من خلال الربط بين مذكرات إسبير منيّر، ابن المدينة الشاهد على مأساتها، مع ما روته منال من أنهم ظلّوا يعانون شهرًا من الذباب الأزرق. ما يعني أنَّ مذبحةً كبرى حدثت وصُمِتَ عنها.
كان آدم قد قرّر النسيان، ولذا تعايش مع حياته بوصفه يهوديًا. قلب قصته بلا مشقة إلى قصة يهودية. إجراءات طفيفة فقط وتحوّل غيتو اللد إلى غيتو وارسو. يكتب آدم في دفتره: "أردت أن أصير مواطنًا في هذه الدولة وأنسى. اخترعت لنفسي ذاكرة جديدة، انزلقت فيها إلى النهاية، بحيث أنني لم أعد أعرف من أكون بالضبط" (ص 282). زوّر نفسه لأنه أدرك أن المهزوم لا وجود له. تقريبًا كانت ذات آدم ذاتًا منكوبة كاللد والرملة، ككل فلسطين، وذاتًا مصادرة كالبيارات والبيوت، وصاحبها ككل الفلاحين والملاّكين محكوم بالغياب رغم أنه لا يزال واقفًا على أرضه وترابه.
يرسل لنا خوري إشارات عديدة، في مقدمتها أن آدم دنون فلسطيني منفيّ وليس ابن مخيم، وهذا أمر أساسي ليؤكد أن محتوى الدفاتر ينتمي إلى وعي المنفى، أي وعي التاريخ، وليس مجرد حكاية شفهية.
كذلك آدم مولودٌ من شجرة الزيتون، كما يردد له مأمون الأعمى في حل غموض ولادته بالمجاز، وهنا الرمز يتكلم. أيضًا عمله في الفلافل هو شكل رمزي من أشكال الارتباط بالأرض المسروقة، تمامًا كحال الفلافل.
يحوّل آدم في "أولاد الغيتو" حكايته إلى تاريخ، في مفارقة للصهاينة الذين حوّلوا الأسطورة إلى تاريخ
تنكره بهوية إسرائيل ولغتها وقبوله التعريف بنفسه كيهودي، فتلك إشارة إلى مرحلة مظلمة من تاريخٍ التبستْ فيه الهوية أمام وقع الهزيمة الساحقة، وتبديل العوالم. والمفارقة أن الفلسطيني في ذلك الوقت كان عليه أن يكون إسرائيليًا رغمًا عنه، من دون الحصول على حقوق المواطنة الكاملة.
في إشارة بالغة الأهمية، يصطدم آدم مع مؤرخ يرفض الأخذ بشهادته لأنها تصلح للأدب أكثر مما تصلح للتاريخ. يعلّق آدم: "أعتقد أن تعدّد الروايات لا يعود فقط إلى أنها لم تكتب، بل يعود أساسًا إلى محاولة الضحية التأقلم مع واقعها الجديد، عبر النظر إلى الأحداث المأساوية المتلاحقة بالعين الثالثة، التي لا ترى إلا ما يستطيع الإنسان تحمّل رؤيته" (ص 246).
رفض المؤرخ العربي لصوت الضحية يشبه رفض المؤرخ الإسرائيلي. ولأجل هذا بالذات يذهب آدم إلى المنفى ويحوّل الحكاية الفلسطينية الكبري إلى أدب منفى، إلى وعي دائم، إلى مكتوب يقاوم الشفهي، أي إلى تاريخ في التاريخ، في مفارقة للصهاينة الذين حوّلوا الأسطورة إلى تاريخ.
من جانب مواز، تتحاور فنون الكتابة في سردية إلياس خوري شديدة التعقيد، فمن جانب تظهر أسئلة الشعر في القسم المتعلّق بوضّاح اليمن، ومن جوانب عدة تتحاور النصوص التأسيسية للسردية الفلسطينية، لا سيما نصوص غسان كنفاني وإميل حبيبي ومحمود درويش، بالإضافة إلى محاججة الصهيونية ومؤرخيها الجدد. وفوق كل ذلك كله، يأتي موت آدم محترقًا في شقته في نيويورك كاستعارة لموت راشد حسين حاملًا دلالتين، الأولى من حيث أنه اختيار واعٍ للموت بعد حياة لم يخترها فلسطيني النكبة، والثانية أنّ الجسد الصامت لن يتكلم بعد كل هذا الوقت إلاّ بالنار ولغتها.
اقرأ/ي أيضًا: