تابعت باهتمام إقصاء الصحفي الفلسطيني أمجد عراقي، المقيم في حيفا، من جلسة نقاش سياسية تحت عنوان: "السعي للوحدة"، والتي كانت مجدولةً ضمن برنامج افتتاح مؤتمر "Build Palestine" عبر الإنترنت.
لم تصدر إدارة المؤتمر أي تنويه أو بيان توضيحي للجمهور عن قرار إلغاء مشاركة عراقي
لم تصدر إدارة المؤتمر أي تنويه أو بيان توضيحي للجمهور عن قرار إلغاء مشاركة عراقي، باستثناء بيان توضيحي تلته إحدى المتحدثات نيابة عن زميلها المنسحب، والذي أزيل اسمه عن أجندة المؤتمر المنشورة قبل ساعات من الجلسة.ربما لتجنب "البلبلة"، وأملًا بسير جلسات المؤتمر بسلاسة. إلّا أنّ منشورًا كتبه الصحفي رامي سمارة على موقع فيسبوك، أعاد الحديث عن الأمر من جديد. وجاء فيه: "تلقيت دعوة كريمة من مؤتمر لتقديم مداخلة تتعلق بالإعلام الفلسطيني، وقبلتها بكل سرور. لكن وبعد نصيحة من أحد الأصدقاء، اتضح وجود متحدث فلسطيني مُعرّف كمحرر في مجلة +972"، مضيفًا، أنه أبلغ إدارة المؤتمر بانسحابه، بناء على "موقف شخصي من مسألة التعاون مع المحتل"، وفقًا لكلماته.
لاقى قرار سمارة تأييدًا من زملائه الصحفيين، وأدت تلك الضغوطات لانسحاب الصحفي أمجد عراقي، المحرر في مجلة 972+ السياسية، المُدارة من قبل صحفيين فلسطينيين وإسرائيليين، ومقرها داخل الخط الأخضر.
كصحفي فلسطيني يعمل في البلاد، تتركز أعماله واهتماماته على الشأن الفلسطيني-الإسرائيلي أساسا، قدرت جدًا حساسية الزميل رامي سمارة، والتي تحولت إلى إعلان موقف، ثم فعل. فالحساسية تجاه المستعمِر سلوك يستحق الاحترام، طالما ما زلنا نعيش واقعًا استعماريًا في البلاد بأكملها، إذ لا ينبغي أن تصبح العلاقة بين المجتمع الخاضع للاستعمار، ومستعمِره، علاقةً طبيعيةً، طالما أن الاستعمار قائم، وهذا ببساطة جوهر مناهضة التطبيع.
ورغم اتفاقي من حيث المنطلق مع الزميل سمارة، إلا أنني أعتقد أنه أصاب هدفًا خاطئًا. فمجلة 972+ الرقمية، تمثل شريحة ضئيلةً من الصحفيين والنشطاء (الإسرائيليين)، ربما بضع عشرات، والذين ينتمون للتيار المعادي للصهيونية، والمناهضين للاستعمار في كل شبر ضمن حدود فلسطين الانتدابية، والداعمين -بكتاباتهم- لتفكيك المنظومة الاستعمارية (إسرائيل - كنظام استعمار استيطاني)، وحق اللاجئين بالعودة، وغيرها من أبجديات التحرر الفلسطيني.
لا يمكن إطلاقا مقارنة مشروع صحفي سياسي كهذا بمواقع صحفية صهيونية، مطعمة ببعض القيم الليبرالية، كما فعل بعض المنتقدون، بالإشارة إلى هآرتس، أو حزب ميرتس، أو أي مجموعة "سلام" و"تعايش". فالجمع بين هذا وذاك هو خلط بين تيارين لا يلتقيان، الصهيوني اليساري/الليبرالي، الأكثر شيوعًا، والمعادي للصهيونية (يسار، أو تيارات دينية، كجماعة ناطوري كارتا)، وهو الأقل حضورًا.
فالتيار الأول، يعتز بهويته الإسرائيلية، ولا يرى فيها أي بصمة استعمارية، إلا أنه يعارض "احتلال" أراضٍ خارج "حدوده"، كالضفة الغربية والجولان. هو تيار لا يهدف إلى أبعد من جعل مشروع إسرائيل أكثر أخلاقية، وتطعيمه ببعض القيم الليبرالية. ويصطف هؤلاء غالبًا خلف ما يسمى "حل الدولتين". أما التيار النقيض، فيرى في المشروع الإسرائيلي حالة استعماري استيطاني، ويسعى جاهدًا لتفكيك المنظومة السائدة بكاملها، دون تجميلها، والانفصال قدر الإمكان عن الهوية الإسرائيلية، هوية المستعمِر.
وتطبق مجلة 972+ الأطر النظرية المذكورة أخيرًا بشكل عملي في ممارستها الصحفية، إذ تكرس جل تركيزها لتغطية ملفات الاستعمار في كافة أنحاء البلاد، في حيفا والنقب قبل نابلس والخليل، وتستعمل أوصاف الاستعمار الاستيطاني، والتطهير العرقي والفصل العنصري (أبرتهايد)، في تغطيتها، وتصف الكفاح المسلح بالـ"مقاومة"، وتتبنى السياق الاستعماري حتى في تغطيتها للشؤون الإسرائيلية الداخلية، أيّ شؤون مجتمع المستوطنين.
في إحدى وثائقها التحريرية المنشورة للجمهور، تقول المجلة أن تغطيتها "تفكك الصهيونية كمشروع استيطاني استعماري"
في إحدى وثائقها التحريرية المنشورة للجمهور، تقول المجلة إن تغطيتها "تفكك الصهيونية كمشروع استيطاني استعماري"، وتضيف أن تأطيرها للتغطية الصحفية يتجاوز إطار "الاحتلال" (Occupation Framework) بلغة القانون الدولي، والذي يركز حصرًا على الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري كأراضٍ محتلة، ليصل إلى لغة الاستعمار (Colonialism) والفصل العنصري (Apartheid) في كافة الأراضي "الواقعة بين البحر والنهر"، وفقًا للموقع.
ونظرًا لجودة إنتاجها وتحريرها باللغة الإنجليزية، منذ تأسيسها عام 2010، باتت مصدرًا صحفيًا أساسيًا للمهتمين بالشأن الفلسطيني- الإسرائيلي حول العالم. خاصةً بين أوساط المتضامنين مع الفلسطينيين، وغير القادرين على الوصول إلى مصادر باللغة العربية، في ظل غياب وسيلة إعلام محلية ناطقة باللغة الإنجليزية أساسًا، وبطاقم تحرير فلسطيني صرف، يضاهيها في الجودة.
بالنسبة لي، وككاتب أرى فيها منصةً فريدةً من نوعها سياسًيا، ولا يمكنني التفكير بنموذج إعلامي مشابه في معاداته للصهيونية والاستعمار، في ساحة تملؤها منظمات اليسار الصهيوني.
لكن، هل تشفع تلك الأطر السياسية النظرية، والممارسة العملية، لهكذا مجلة؟ هل هناك استثناءات لتيارات من مجتمع المستوطنين؟ وكيف ينظر للفلسطينيين العاملين أو المساهمين فيها، كأمجد عراقي؟ إن سؤالًا كهذا يضع ملف "اليسار الإسرائيلي" الجدلي، كما يشار له غالبًا، على الطاولة مجددًا.
تطبيع أم مقاومة مشتركة؟
بحسب المعايير التي تضعها حملة مقاطعة إسرائيل وفرض العقوبات عليها وسحب الاستثمارات (BDS)، فإن مجلة 972+ قد ترقى لمشروع "مقاومة مشتركة"، كما تسميها أدبيات الحركة، لا مشروع "تطبيع". إذ تقدم حركة المقاطعة شرطين أساسيين ينبغي تفحصهما قبل الحكم على أي مشروع مشترك. وهما، "(1) يجب على الجانب الإسرائيلي دعم الحقوق الكاملة والشاملة لجميع الفلسطينيين. (2) يجب أن تتضمن العلاقة نفسها شكلاً من أشكال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. الإسرائيليون الذين يدعمون حقوقنا الشاملة.. هم شركاؤنا، والعلاقات معهم لا تشكل تطبيعًا"، تقول حركة المقاطعة في نص المعايير، وتبرز بالاسم منظمات "تطبيعية" لا تستوفي الشروط، كـ "بذور السلام" و"صوت واحد"، بحسبها.
وإذا ما ابتعدنا عن حركة المقاطعة ومعاييرها، والتي باتت تثير جدل الناشطين الفلسطينيين محليًا ولا تقنعهم في السنوات الأخيرة، فإن تاريخ الثورة الفلسطينية يجلب لنا عدة نماذج للنضال المشترك ضد الاستعمار، لا مجال للخوض بها في مقال قصير، لكنها وصلت إلى حد الانخراط في العمل المسلح لـ"إسرائيليين" ضمن صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على سبيل المثال.
وحتى يومنا هذا، تحظى بعض الأسماء (الإسرائيلية) المناهضة للصهيونية باحترام كبير في أوساط الفلسطينيين، كالمؤرخ إيلان بابيه، المختص في حقل النكبة، صاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" الشهير، والذي ألقى محاضرةً وسط مدينة نابلس عام 2018 دون أي استياء جماهيري. وإذا ما أردنا الابتعاد عن التيارات اليسارية-العلمانية المناهضة للصهيونية وللاستعمار، والنظر إلى بعض النماذج الدينية، فنجد حركة ناطوري كارتا، والتي تتخذ من حي ميئا شعاريم في القدس مقرًا لها، وتشارك في العديد من التظاهرات الفلسطينية هنا وهناك، والتي لاقت إشادةً من منظمة التحرير الفلسطينية في السبعينيات، والتقت بشخصيات بارزة من حركة المقاومة الإسلامية حماس.
في أيامنا هذه، تظهر بعض الحراكات والمنظمات المعادية للصهيونية والاستعمار، أعضاؤها من الجيل الشاب، والذي لم يحظ الفلسطينيون المحصورون في مناطق ألف (أ) بالضفة الغربية، أو قطاع غزة، بفرصة الاحتكاك بهم. وهنا تجدر الإشارة إلى منظمة زوخروت (ذاكرات)، صاحبة تطبيق الهاتف الشهير iNakba (الآن يسمى بـ iReturn)، والتي أحدثت إسهامًا رقميًا هامًا في ملف القرى المهجرة، وتأريخ النكبة، بشكل عام. بالإضافة إلى المؤرخ الشاب روعي مروم، والذي يجول القرى الفلسطينية على جانبي الخط الأخضر، متحدثًا لهجةً عربيةً فصيحةً، فيما لاقت صفحته "بلدي – تأريخ وتراث" استحسان المتابعين الفلسطينيين. وأخيرا وليس آخرًا، حركة أناركيون ضد الجدار، والتي نشطت في قرى الضفة الغربية ما بين 2004-2010، ولم يتبق منها سوى بضع أفراد يشاركون الفلسطينيين في بيتا وكفر قدوم تظاهراتهم الأسبوعية بشكلٍ فردي.
لا يطلب هذا المقال من الفلسطينيين بالضرورة تقبل هذه الأوساط، ولا إعطائها أي أولوية في البناء والتنظيم المجتمعي، ولا حتى العمل الصحفي، إلا أن استهدافها قد يكون بمثابة هجوم على حلفاء، لا يمثلون "الطرف الآخر". بل يربطون أنفسهم بمواجهة المنظومة الاستعمارية، وقد لا يختلفون أبدًا -من حيث المبادئ السياسية- عن أي فلسطيني يسعى للتحرر الكامل.
قد يتفق البعض مع ما ذكر أعلاه، لكنهم سيطرحون السؤال الأكثر جدلًا: "طيب أنا أحترم هذا. لكن إذا كان هؤلاء حقا معادون للصهيونية والاستعمار، فماذا يفعلون في البلاد؟ لم لا يرحلون؟".
طرحت الثورة الفلسطينية في غالبية فصائلها مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة لكافة سكانها منزوعة الاستعمار
بالنسبة لي، سؤال كهذا ينبثق أساسًا عن فكرة ترحيل مجتمع المستوطنين بالكامل إلى بلدانهم الأصلية عند التحرر، وهي مسألة قد لا أتفق معها، ولم تتفق معها حتى أكثر حركات المقاومة الفلسطينية راديكالية قبل مرحلة أوسلو، إذ طرحت الثورة الفلسطينية في غالبية فصائلها مشروع الدولة الديمقراطية الواحدة لكافة سكانها، منزوعة الاستعمار، واستمر هذا الطرح لسنوات طويلة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، على سبيل المثال لا الحصر. أليس على المجتمع الخاضع للاستعمار أن يتحلى بمسؤولية مستقبلية، منبعها القيم التحررية، والتي تتناقض مع التهجير القسري العكسي لملايين السكان من "الآخرين"، بعد تفكيك استعمار ضرب المنطقة قبل أكثر من مئة عام؟ هل حدث فعل الترحيل العكسي في أي من حالات الاستعمار الاستيطاني حول العالم، كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا؟ أو هل من المنطقي المطالبة به بعد وقت طويل كهذا؟ هل نطلب من آلاف المعادين للصهيونية، كناطوري كارتا مثلا، حمل حقائبهم والرحيل لإثبات صحة نواياهم، على اعتبار أن أعدادًا منهم جاءت للبلاد مع موجات الاستعمار الأولى قبل نحو مئة عام وأكثر؟ هذه أسئلة للتفكير البعيد.
أما مرحليًا، فأرى أن الحكم على التيارات المعادية للصهيونية الناشطة ضد الاستعمار القائم، بناء على مكان التواجد حصرًا، دون الالتفات لمبادئها ونشاطها المستمر، ومحاولة انفكاكها الدائم عن الهوية الإسرائيلية، هو موضع تساؤل وبحث مستمر بالنسبة لي. فما الذي يمنع الفلسطيني من أن يرى في شخص كهذا شريكًا في المستقبل؟ عقب تفكيك الاستعمار في البلاد؟ فالشعوب المقاتلة ضد الاستعمار حول العالم، أبرزت لنا نماذج عديدة في المقاومة "المشتركة" ضد الاستعمار، كجنوب أفريقيا، رغم جدليتها.
نقاط هامشية
ما لفتني في الحادثة، أن من تعرض للإقصاء هو صحفي فلسطيني مقيم في حيفا، جاء ليشارك زملاءه الفلسطينيين المقيمين في أماكن مختلفة عن تجربته وآرائه، وفي هذا تجاهل تام لخصوصية الفلسطينيين المقيمين داخل الخط الأخضر، المضطرين للتعامل مع أطر قد لا تروق لشخص في الضفة الغربية مثلًا. على الرغم من أن عراقي لم يأت لتمثيل مجلة 972+ بشكل مباشر، إذ إنه ينشر كصحفي وباحث مستقل في أماكن عديدة، أبرزها شبكة السياسات الفلسطينية.
وحتى بحسب معايير حملة المقاطعة إسرائيل (BDS)، فإن معايير مختلفة تطبق على الفلسطينيين المقيمين داخل الخط الأخضر، نظرًا لاحتكاكهم المباشر بمجتمع المستوطنين، وحملهم للمواطنة الإسرائيلية التي فرضت عليهم قسرًا – وهو واقع لم يؤثر على عراقي ولم يدفعه للمهادنة- إذ يشهد له تاريخه المهني بعمله في أطر مقاومة، بمختلف مستوياتها ومنهجياتها، كمركز عدالة داخل الخط الأخضر، ومجلة 972+، وشبكة السياسات الفلسطينية، وغيرها، وهو صوت متابع بكثرة في أوساط النشر السياسي باللغة الإنجليزية.
مما أثار اهتمامي أيضًا، أن كُثرًا ممن حكموا على الصحفي أمجد عراقي، وانتقدوا مجلة 972+، لم يقرأوا مضامينه، أو مضامين المجلة، شديدة الوضوح من حيث السياسة، واستعانوا بتعريفات قديمة من ويكيبيديا وغيرها، للحكم على مجلة دائمة التغيير والمراجعة لسياساتها التحريرية، والتي تعلنها للجمهور فور تبنيها.
حتى أن البعض أصدر أحكامًا على المجلة من اسمها، معتبرين أن 972+ هو إبراز لمفتاح الاتصال الإسرائيلي، كرمز وطني، علمًا بأن المجلة تبرز بوضوح أن في التسمية رمزية لتركيزها على الشأن السياسي الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ إن مفتاح الاتصال المذكور هو مشترك للشبكات الفلسطينية والإسرائيلية.
ما راق لي في موقف الصحفي رامي سمارة المعلن، هو تركه للسؤال مفتوحًا، إن لم أكن مخطئًا، وذلك بعدم وسمه لزميله الصحفي أمجد عراقي بأوصاف "التطبيع" و"الخيانة"، شائعة الاستعمال في هكذا نقاشات، بقوله: "وهنا لا بد من التنويه إلى أنني لا أتهم أي أحد بأي شيء، ولكن ما سبق مبني على موقف شخصي". وهو تمامًا ما يأمله المقال هذا، الذي يحمل دعوة للتعمق في مركبات سؤال بالغ التعقيد، خاصة للمثقفين والصحفيين، التي تمتلئ ساحات عملهم بالمنظمات الإسرائيلية، بكافة ألوانها وأطيافها، ابتداءً من بيتسيلم، وهآرتس، وعير عميم، وبيمكوم، وكسر الصمت، وييش دين، والتي توسم باليسارية الصهيونية غالبًا، وأصوات أصغر حجمًا وأقل حضورًا كزوخروت، ومجلة 972+، التي تعلن نفسها معاديةً للصهيونية والاستعمار.